بعدما انقضى الموعد الاول لتأليف الحكومة، قبل عيد الاستقلال، يقترب الموعد الثاني المحدد مبدئيا، في نهاية هذا الاسبوع، وسط تكاثف الاشارات التي تعكسها اجواء مشاركة في المفاوضات الجارية، عن قرب صدور مراسيم التأليف.
لكن الفترة الفاصلة بين الموعدين اللذين لم يُحددا رسميا، ساهمت اكثر في توضيح مواقف الافرقاء الاساسيين، واعادت بث اجواء غير تفاؤلية عن بدايات العهد الجديد، بعدما دخلت عوامل عدة على خط التأليف.
فبعد الاحتضان العربي والخليجي لرئيس الجمهورية ميشال عون والتعامل بانفتاح مطلق مع انتخابه وتكليف الرئيس سعد الحريري تأليف الحكومة، وتوقع زيارته الخارجية الاولى الى السعودية، جاءت تطورات حلب، والمتغيرات الدولية التي يراهن عليها الرئيس السوري بشار الاسد، لترسم علامات استفهام في اوساط سياسية حول امكان ربط التأليف بعملية شد الحبال المتوقعة دوليا حول سوريا واليمن والعراق ولبنان تلقائيا. وهذا يفسر في نظر هؤلاء تريثا في استثمار البعض لانتخاب عون وتكليف الحريري بما يفهم منه انه انتصار لفريق على آخر. اذ بين القراءات «المتسرعة» لفوز الرئيس الاميركي دونالد ترامب، وانتخاب رئيس الوزراء الفرنسي فرنسوا فيون لتمثيل اليمين الفرنسي في الانتخابات الفرنسية، وتأثيرهما في العلاقة مع روسيا ودورها في سوريا، فان ثمة من يرى استعجالا في قطف ثمار معركة حلب مبكرا، وتجييرها لمصلحة التريث في تأليف الحكومة لبنانيا، لان مسار الحكومة لا ينتهي فقط بمراسيم التأليف بل يفتح الباب امام اعادة تشكيل سلطة جديدة، عبر الإعداد لانتخابات نيابية تعيد فرز القوى السياسية. وهذا لا يمكن لاي طرف فاعل ان يسمح به من الان، وحتى يحين موعد الانتخابات النيابية، في انتظار جلاء ما تفرزه حرب سوريا والمتغيرات الدولية.
لكن في موازاة التطورات السورية، يستمر الوضع الداخلي ضاغطا، ليترك مؤثرات مهمة، على خط التأليف. فتمرير الانتخابات الرئاسية بأقل الاضرار الممكنة لا يتكرر في الحكومة، لان مبدأ السلة الذي يصر عليه الرئيس نبيه بري ويريد تحويله امرا واقعا، لا يفهم منه الا تقييد حرية رئيس الجمهورية والرئيس المكلف. واذا كان الحريري يحاول تدوير الزوايا مع بري، ويقف معه «ظالما ام مظلوما»، فان رئيس الجمهورية لا يزال على رفض ما لم يقبله قبل انتخابه. وكما رفض التيار الوطني والقوات اللبنانية سلة بري قبل الانتخاب، فان الحملة عليهما من جانب الاخير ولاسباب تتعلق تارة بتمثيل المردة وتارة بحصة القوات، بعد التلميحات التي اطلقها ضد رئيس التيار الوزير جبران باسيل، ستزيدهما اصرارا على منع رئيس المجلس من فرض ايقاعه على رئيس الجمهورية.

حكومة تكنوقراط مصغرة قد تعوض الخلل السياسي في تمثيل الكتل الحزبية



ومشكلة بري مع مثلث رئيس الجمهورية والتيار والقوات، لا يمكن التعامل معها فقط من زاوية التشنج القديم بين الطرفين، وفقدان الكيمياء بينهما. بل يمكن ايضا قراءتها من باب عدم استيعاب تطور بحجم وصول عون تحديدا الى قصر بعبدا، لان عون قبل الرئاسة هو غير عون ما بعدها، ومن باب عدم التسليم بأن مستجدات طرأت على الواقع المسيحي خصوصا واللبناني عموما، لا يصب التعامي عنها في مصلحة اي طرف. فرغم العوامل الشخصية التي تغلب على اداء بعض من ينتقدهم بري، الا ان ذلك لا يمنع ان ايجابيات ترتد على الواقع المسيحي، ساهمت التفاهمات في اذكائها وطبعتها مفاوضات الانتخاب الرئاسي والتأليف الحكومي.
في المقابل يزداد توطيد اواصر العلاقة بين مثلث عون والحريري وجعجع. فالعلاقة التي نسجها باسيل مع الحريري ومدير مكتبه نادر الحريري، تضاف اليها العلاقة بين الحريري وجعجع التي مرت بفترات صعود وهبوط، الا انهما ظلا في حاجة الى بعضهما بعضاً، وخصوصا بعدما اعادت الرياض وصل ما انقطع مع لبنان الرسمي، عبر رئيس الجمهورية.
من هنا يصبح التركيز على الايام القليلة المقبلة، اساسيا لفهم ما قد يحمله العهد الجديد من مؤشرات مطمئنة لمسار الاشهر الفاصلة عن الانتخابات. ويكمن سر اللعبة الداخلية في الإجابة عن سؤال من يتعب قبل الآخر: رئيس الجمهورية ام الرئيس المكلف ام رئيس المجلس؟ فعون مصر على تأليف سريع للحكومة، بات هو في قلبها كما لم يكن اي رئيس سابق للجمهورية في زمن الوجود السوري وبعده، وتتركز عليه الحملة المعارضة اكثر من الحريري. وكل من يلتقي عون، يعرف ان لديه تصورا واضحا لما ستكون عليه الحكومة المقبلة. والرئيس المكلف لا يريد ان يكرر تجربة رئيس الحكومة المستقيل تمام سلام، والبقاء 11 شهرا من دون حكومة. اما رئيس المجلس فلعبة الانتظار لديه سيف ذو حدين، لانها ايضا تأكل من رصيده بعدما وضع رئيس الجمهورية والتيار والقوات والمستقبل في خندق واحد ضده، وهذا ليس في مصلحة ثنائية حركة أمل وحزب الله. وهو يحاول الافادة من الوقت الضائع ليفرض التعامل معه على قاعدة انه ليس الخاسر في معركة رئاسة عون.
وسط هذه الاجواء، وبعدما بات متعذرا حل المعضلة بحكومة من 24 او توسيعها الى 30 وزيرا، هناك كلام عن ان سحب بساط التعقيدات والفيتوات، قد يكون عبر حكومة مصغرة، وهو كلام كان قد نوقش في الطائف، حول حكومة من 14 وزيرا. فحكومة مصغرة من التكنوقراط يمكن ان تعوض الخلل السياسي في تمثيل الكتل الحزبية. وهذا الامر يمكن ان يحرر رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة من شروط التفاوض ولعبة الاحجام النيابية. لان التمثيل الحالي في الحكومة يراوح بين مطالبتين: تمثيل وزاري نسبي لعدد النواب، وتمثيل سياسي لحجم الكتل وتأثيراتها السياسية.
ومن شأن هذه الحكومة ايضا التخلص من عبء المواعيد وفرض الامر الواقع، فيصدر رئيس الحكومة المكلف المراسيم من دون الخضوع للعبة الابتزاز والشروط ومن دون تخطي اي طرف فكيف اذا كان بحجم الثنائية الشيعية. لكن خيارا من هذا النوع، ستكون له ايضا تبعات، لان الجو السياسي بات مثقلا بتحديات متبادلة، ليس من السهل القفز فوقها ببساطة. ولا سيما ان من الصعب على القوى السياسية التسليم ببساطة بعدم نيل حصة من كعكة السلطة وتقاسم الحصص. ولو ان الحكومة هي حكومة انتخابات ليس الا.