عام 2013، تقدم النائب في حزب البعث عاصم قانصوه، إلى المجلس النيابي باقتراح قانون انتخابي يجعل من لبنان دائرة انتخابية واحدة ويحرره من القيد الطائفي ويعتمد النسبية واللائحة المقفلة للحدّ من دور العصبيات الطائفية وتأثير المال السياسي.
المشروع التفت أيضاً إلى خفض سن المرشحين إلى 21 سنة والمقترعين إلى 18 سنة. كان يفترض بالأحزاب السياسية المنادية بالديموقراطية أن تهرول لتبني اقتراح قانصوه وتتقاتل لتكون أحد عرّابيه. إلا أن مشروع قانصوه، «صاحب الخطاب الخشبي وأحد أعضاء الحزب الديكتاتوري» كما يصفه مدّعو الديموقراطية، لم يحرك ساكناً نيابياً ليُركن إلى جانب قوانين أخرى في مقبرة اللجان النيابية.
فعلياً، لا مشكلة في لبنان حول عجز القوى السياسية عن وضع قانون انتخاب نيابي جديد. فأريحية الأحزاب انتجت منذ عام 1992 أكثر من 17 مشروعاً واقتراح قانون، آخرها أربعة مشاريع أقرت في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي الثانية. والفرق، مثلاً، بين قانون النائب البعثي وقانون التيار الوطني الحر (النسبية مع تقسيم لبنان إلى 13 دائرة)، والقانون المشترك بين المستقبل والقوات اللبنانية والحزب الاشتراكي (يدمج بين 70 مقعداً بالأكثري و58 بالنسبي) والقانون المختلط المقترح من حركة أمل (64 أكثري و64 نسبي)، أن الأول، أي اقتراح قانصوه، يمهّد لإصلاح سياسي حقيقي باستناده إلى ترشيحات من خارج القيد الطائفي، بينما المشاريع الباقية تخلط النسبية والطائفية بما يضمن إعادة إنتاج الطبقة السياسية نفسها.
إذا كان الدستور هو الأساس، فهو قد نصّ على اعتماد قانون انتخاب خارج القيد الطائفي عقب أول انتخابات تلي اتفاق الطائف. إلا أن ما كان يحصل عشية كل دورة انتخابية، هو إصدار قانون يعمّق الانقسام الطائفي والمذهبي ويفصّل على قياس القوى السياسية. واليوم، يمكن اختصار الأزمة بالنقطة نفسها: توزيع الدوائر بشكل يؤمن طرف احتكار التمثيل وإلغاء أي منافسة محتملة. وهذا ما يفسّر «الرهاب» الذي يصيب غالبية الكتل السياسية عند طرح مبدأ النسبية فتسارع لتغطية عورتها بألف حجة وحجة، ليس آخرها نعي وزير الداخلية نهاد المشنوق أمس احتمال حصول انتخابات نيابية وفق قانون جديد في الموعد المحدد، «فالداخلية جاهزة فقط لتنفيذ الانتخابات وفق قانون الستين، وأي قانون جديد يحتاج أشهراً لترتيب الإدارة وتثقيف الناخبين». إذاً، لا قانون جديداً في المدى المنظور، لأن «الشعب متخلف وأغشم» من أن يستوعب في مدة قصيرة ما يمكن أن تنتجه عقول النواب. والأكيد أن «الشعب» لا يزال حتى الساعة عاجزاً عن فهم ما ابتكره المشنوق بالأمس وسمّاه «النسبية العاقلة»: «النسبية العاقلة هي التي تحقق ما نريد، ورغبات القوى السياسية تعبّر عن تطلعاتها السياسية وليس ما تريد النسبية أن تحققه للوطن من صحّة تمثيل»!

النسبية تنفّس كتلة تيار المستقبل وتنهي سطوتها على مقاعد حللها لها الستين


الخلاصة، تيار المستقبل كان ولا يزال رافضاً للنسبية بشكل مطلق، فمصلحته وضمانه كل مقاعد الطائفة السنية لا يكون إلا بنظام أكثري كالستين أو نظام مختلط يقسم فيه الدوائر على هواه ليضمن بقاء 27 مقعداً سنياً تحت جناحيه. لذلك، يبدي الحريري استعداده للسير بقانون بري المختلط ويشترط تعديل توزيع الدوائر في صيدا وبيروت وغيرها حتى لا يتمكن من لا يوالونه، وهم يحظون بتأييد ثلث الناخبين تقريباً، من التمثل بنحو 9 مقاعد في البرلمان. هي الديكتاتورية بأبهى حللها، وهو إعلان صريح للرأي العام ولمشاريع المرشحين بأن لبنان نشأ على الزبائنية والطائفية وتوازن مصالح القوى السياسية، ولا إمكانية للإخلال بواحدة من أساسات وجوده. عليه، سيوزع الحريري المكرمات على من يراه مستحقاً لها ويفترض بمن يرغب في الفوز بالنيابة التزلف له، أو في حال ميقاتي والنائب محمد الصفدي التحالف معه، للحفاظ على حيثيتهم. والأهم أن الحريري يظن أنه سيتمكن من سحق تمرّد الوزير أشرف ريفي.
ولعل موقف المستقبل غير مفاجئ هنا، بقدر ما يفاجئ صمت التيار الوطني الحر عن قضية الفساد الأكبر في البلد: قانون الانتخابات النيابي. الحزب البرتقالي مقتنع بانسداد كل الآفاق أمام النسبية حتى النسبية المقنعة بتوزيع دوائر يراعي الطوائف، وتؤكد مصادره موافقته على قانون بري المقترح على دورتين: الدورة الأولى لتأهيل المرشحين وفق النظام الأكثري والدورة الثانية تعتمد النسبية. فيما يشير النائب آلان عون إلى أن «التيار الوطني الحرّ» يدعم إجراء الانتخابات النيابية في موعدها وفق قانون جديد. لن يكون هناك تمديد، بل تأجيل تقني بسيط إذا وُضع قانون انتخابي جديد وكان هناك حاجة له لاستكمال جاهزية وزارة الداخلية، بشرط أن يُعتمَد القانون أولاً ويعقبه التأجيل.
حزب القوات اللبنانية يقولها صراحة: «نحن كقوات ضد النسبية بالمطلق». لماذا؟ «لأنه بقدر حرصنا على تصحيح التمثيل نحرص أيضاً على أن يكون شريكنا في الحكم معتدلاً. نريد شركاء كالحريري وبري لا أسير آخر. فالتطرف الشيعي حدّه الأقصى حزب الله، أما التطرف الآخر فيبدأ من الأسير ولا ينتهي عند البغدادي». ما سبق إن لم يكن حجة أخرى لرفض حجم التمثيل الصحيح لكل كتلة التي تكشفه النسبية، هو فعل ديكتاتوري آخر يريد تفصيل نتائج الانتخابات مسبقاً وفق ما يراه مناسباً. علماً أن هذا المنطق سقط في الانتخابات البلدية الأخيرة التي تعتمد في تقسيمها دوائر صغيرة. ففي بيروت، مثلاً، لم يتجاوز عدد الأصوات التي نالها رافضو المناصفة في العاصمة عتبة الـ 2719 صوتاً. وهم بالمناسبة، لم يكونوا أسيريين، ولا داعشيين. وأقصى ما يمكن أن تفرزه النسبية لتيار المستقبل هو إظهار حجمه الحقيقي، أكان على مستوى التمثيل السني أم على مستوى التمثيل المسيحي (مع احتمال ضمان فوز حلفاء له ممن يُعرفون بـ»المستقلين»).
في العام، كلمة «النسبية» ذات إيقاع رنان ومربحة شعبياً، لكن عندما تصل الموسى إلى الأحجام، تصبح النسبية عصية على فهم الرأي العام عند البعض وجميلة، لكن يتعذر تطبيقها عند آخرين. في ميزان تيار المستقبل، النسبية تنهي احتكاره لطائفة كاملة وتنهي سطوته على مقاعد أخرى حللها له قانون الستين بتوزيعه الدوائر وفق ما يفصله الورثة السياسيون. اشتراكياً، إنصاف النسبية لباقي القوى الدرزية وتأسيسها لزعامات خارج البيت الجنبلاطي على المدى البعيد كفيلة بتأجيج عداوة النائب وليد جنبلاط ضدها. عونياً وقواتياً، النسبية لا تمسّ حجم كتلتيهما بالمجمل، ولكن تحالفهما اليوم وفق قانون الستين يجعلهما مقتنعين باكتساح كل الأقضية التي يتمثلان فيها بالكامل وسحق الزعامات المحلية التي تنصفها النسبية أمثال ميريام سكاف ومنصور البون وفريد مكاري وبطرس حرب وحزب الكتائب وغيرهم. في ما خص حركة أمل وحزب الله، يمكن النسبية أن تحول دون فوزهما بكل مقاعد الطائفة الشيعية (وبالمناسبة، حالياً، ثمة أربعة نواب شيعة خارج كتلتي حركة أمل وحزب الله، وهو الحد الأقصى الذي يمكن أن يخسراه بالنسبية، إن بقي سلوك الناخبين على ما هو عليه)، لكنها في المقابل تضمن تمثل حلفائهما من مسيحيين وسنّة ودروز أمثال عبد الرحيم مراد وفيصل كرامي وجهاد الصمد ومرشحي الحزب القومي وغيرهم الكثير. إزاء ذلك، الستين باقٍ، باقٍ، باقٍ... إلا إذا أنتجت العقول البرلمانية الفذة قانوناً جديداً يعيد طبخ القالب الطائفي ذاته بشكل جذاب يضمن ابتهاج بعض الرأي العام.