لم تكن القوى الأمنيّة، على اختلاف أجهزتها، إلا الوجه الظاهر للسُلطة عندما قمعت الحراك الشعبي. الحديث عن الحراك الذي شهدته بيروت في صيف العام الماضي. تلك الغضبة التي انطلقت شرارتها الأولى إثر تكدّس النفايات في شوارع العاصمة.
القوى الأمنيّة كانت في الواجهة، أما في العمق فكان النظام، أو خلطة الحُكم التي يقتات بها زعماء الطوائف – الحاكمون. هؤلاء الذين تحصل وقاحتهم، اليوم بعد مضي أكثر من سنة، إلى حد ملاحقة المشاركين في الحراك تحت عنوان «أوامر تحصيل ماليّة». يُريدون أن يُحصّلوا مِن الشبّان الذين غضبوا آنذاك، وأكثرهم مِن المعدمين، أموالاً بدل ما استهلكته القوى الأمنيّة مِن أدوات قمع، مثل القنابل المسيّلة للدموع! نعم، يُمكن للمسخرة أن تصل إلى هذا الحد. سنقمعك، لأنّك غضبت، وأنت غضبت لأن بلادك غرقت في النفايات، النفايات تكدّست لأشهر في الشوارع لأننا سرقنا ونهبنا وأفسدنا، والآن بعدما قمعناك عليك أن تُسدّد ثمن ما صرفناه أثناء قمعك! هكذا، تأتي «أوامر التحصيل» اليوم كمحطة أخيرة، إن لم يكن هناك ما هو أسخف بعد، في سياق المسلسل القمعي الذي تعرّض له الحراك منذ بدايته. عند الحديث عن السُلطة في لبنان، في الإطار القمعي، فإّنه لا يُمكن الفصل بين ما تعرّض له المُشاركون في الحراك مِن ضرب على أيدي الشُرطة، التي تلبس الثياب المرقّطة، عن أولئك الذين استلب وعيهم زعماء السُلطة، والذين، رغم أنّهم مِن الفقراء غالباً، نزلوا إلى ساحة الاعتصام وراحوا يعتدون بالضرب على المتظاهرين بحجّة أنّهم «شتموا زعيمهم». هؤلاء كانوا بثياب مدنيّة. هل ستطلب السُلطة اليوم أوامر تحصيل ماليّة بدل أتعاب لهؤلاء أيضاً؟ لقد نجح هؤلاء في بث الذعر بين المتظاهرين. مُسلسل قمع الحراك يحتاج إلى أرشفة. كثيرون مِن الشبّان اعتُقلوا، آنذاك، وفُرض عليهم توقيع تعهدات بعدم المشاركة مجدداً في تظاهرات مطلبيّة. بالمناسبة، هذه مخالفة للدستور. أليس هذا الأخير يضمن حق التظاهر؟ هذا مجرّد كلام. كثيرون مِن القاصرين اعتقلوا وعرضوا على المحكمة العسكريّة. جزء مِن الرعب. آنذاك وصل مسلسل الرعب القمعي إلى حد نشر إحدى الصحف «تسريبة» مِن جهاز الأمن العام، تتحدث عن وجود أفراد مِن «داعش» بين المتظاهرين، «التخويفة» التي ما عاد أحد سمع عنها شيئاً! صحيفة أخرى، وخدمة للرعب أيضاً، ستتحدث في مقالات مفصلة عن أن بعض السفارات الأجنبيّة تقع خلف الحراك الشعبي. البعض قال إنّ الحراك «عميل». بعض هؤلاء «العملاء» كانوا، بحسب مقطع مصوّر، يُساعدون شرطيّاً وقع أرضاً ويحاولون مداواته، وذلك عكس ما كانت تقول بيانات وزارة الداخليّة والقوى الأمنيّة. لا أحد ينسى أصحاب المصارف وكبار التجّار آنذاك، الذين لم يقصروا في دورهم القمعي، إثر سخريتهم مِن فقر المتظاهرين، معلنين عن خشيتهم أن يتحوّل وسط بيروت إلى «أبو رخوصة». حسناً، فشل الحراك، انتهى، والآن السلطة تُطالب المتظاهرين بدفع كلفة العتاد المستعمل في قمعهم من قنابل غاز ورصاص مطاطي وحي... وعصي تكسّرت على رؤوسهم. ربما هذه هي «النكتة» الأكثر سماجة في تاريخ هذه البلاد.
آنذاك، اعتبر النظام خلال مراحل الحراك، عبر أربابه، أن المتظاهرين ينفذون أجندات خارجيّة، إذ أعلن وزير الداخلية نهاد المشنوق في 1 أيلول 2015 أن «دولة عربية صغيرة تقوم بدور فعال في التمويل والتحريض على التظاهر وسيحين وقت الإعلان عنها عند اكتمال التحقيقات». توقّع أيضاً استمرار أعمال الشغب «التي تقف خلفها أحزاب سياسية». خافت السلطة يومها. رأوا أن كرة الثلج كبرت. لم تعد تسلية. «الزعيم» وليد جنبلاط حذّر من تحوّل الحراك إلى مشكلة أمنية في البلاد، لتعلن بعده المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي انها ستحمي التظاهرات ولكن… محذّرة من قطع الطرقات والتعدي على الأملاك العامة والمس بالقوى الأمنية، وإلا فـ»القمع» بكل قوة. كل هذا حصل بغطاء من الحكومة مجتمعة، التي كانت تشاهد القمع ولا تتحرك، بل تدفع باتجاهه. رؤوس النظام كانوا يتفرّجون على المتظاهرين وهم يتعرضون للضرب من قبل «مدنيين» من دون أن تتدخل. يومها تنصّلت «حركة أمل» من تهمة انتساب هؤلاء «المدنيين» لها، لكنها لجأت إلى القضاء لمحاسبة «من وجه كلاماً نابياً بحق الأخ رئيس الحركة».

فشل الحراك وانتهى والان تطالب السلطة المتظاهرين بدفع كلفة قمعهم

تبريراً للقمع، أطل وزير الداخلية على الإعلام قائلاً: «إن بعض المتظاهرين توجهوا إلى قوى الأمن بألفاظ نابية، وبالتالي هذا الأمر استوجب تنفيذ القانون عبر توقيفهم». لم تكتف السلطة بالبيانات، إنما أقدمت على اعتقال عشرات المتظاهرين ومن ضمنهم 14 طفلاً جرى اعتقالهم بين 22 آب و1 أيلول خلال التظاهرات. مِن هؤلاء 7 جرى التحقيق معهم من قبل قضاة التحقيق في المحكمة العسكرية. أحيل إلى المحكمة 54 متظاهرا ومتظاهرة مِن المدنيين. اتبعت السلطة اسلوبا «ميليشيويا» بعدم الإعلان عن أسماء المعتقلين واماكنهم، في محاولة للترهيب، منتهكة بذلك القوانين.
في 20 آب 2015 حصل أول احتكاك عنيف بين قوى الأمن الداخلي. استفز السلوك القمعي الناس الذين نزلوا في 22 آب إلى ساحة رياض الصلح. كان المشهد مفاجئاً لرؤوس السُلطة. كبرت الحكاية أكثر. زادت القوى الأمنية بطشها في 23 آب لتصيب الشاب محمد قصير إصابة خطرة في رأسه، اضافة إلى عشرات الاصابات الأخرى. في 25 آب، أعدّت القوى الأمنية خطة قمع محكمة، اذ انتظرت مغادرة وسائل الإعلام ووقف البث المباشر ليلاً لتنقضّ على المتظاهرين المتبقين في الساحة. أدت الحملة إلى اعتقال عدد كبير منهم. في هذه الليلة استخدمت القوى الأمنية رصاصا مطاطيا وحياً بقيمة 38 مليون ليرة كما يبدو في موضوع أمر التحصيل الصادر بحق عدد من المتظاهرين. تكلفت «السلطة» كثيراً في هذه الليلة. إنها ليلة «أمر التحصيل المالي» الأول. في 29 آب نزل الناس بالآلاف إلى ساحة الشهداء، مرة أخرى، في أكبر تظاهرة للحراك. آنذاك اعتمدت القوى الأمنية أيضاً سيناريو القمع نفسه ليلاً.
في 8 تشرين الأول 2015 كانت المحطة الاخيرة في الحراك وعنوانها «بلاط فندق لو غراي». يومها اشتغلت الابواق لتصوّر الحراك كمجموعة من المخربين الذين يريدون تدمير الاقتصاد، ووصل الامر بوزير الداخلية الى التهديد بتكسير اليد التي ستمتد الى «ارث الشهيد رفيق الحريري». هنا، بعد تهييج أنصار «حركة أمل» ضد المتظاهرين، يأتي تهييج أنصار «تيار المستقبل» أيضاً. التهديد شامل. شتم زعيم يساوي شتم طائفة، هكذا تُصور المسألة. المتظاهرون «يُريدون تدمير وسط بيروت»! كأن هذا الوسط كان بمثابة الجنّة على الأرض. أين كانت الحياة فيه أصلاً؟ كان شبه ميت. لم تظهر فيه الحياة، بالمناسبة، إلا أثناء الحراك.
يمكن القول إن تظاهرة 8 تشرين الأول 2015، وهي موضوع «أمر التحصيل المالي» الثاني، كانت الأعنف من قبل «قوى القمع». فقدت السلطة وعيها، أو ربما كانت في كامل وعيها، إذ قطعت التيار الكهربائي عن وسط بيروت وبطشت بالمتظاهرين، مخلّفةً عشرات الجرحى والمعتقلين. صور المشهد تحفظ مستنقعا ضخما من المياه في ساحة الشهداء، بعد عودة الهدوء، نتيجة استخدام خراطيم المياه. أصدرت المحكمة العسكرية قراراً باعتقال المتظاهرين من دون أي سند قانوني. في هذه الليلة لاحقت القوى الأمنية المتظاهرين إلى المستشفيات، حيث اعتقل بعضهم. أعلنت القوى الأمنية انها تحمي ساحة النجمة، التي تعتبر ساحة عامة يحق للجميع الدخول اليها، هذا هو «الخط الأحمر». تابعت البيانات الأمنية المتوالية حديثها عن ان «بعض المتظاهرين قاموا بتحطيم آلة سحب مال (ATM) قرب فندق «لو غراي». تحدثت أيضاً عن تحطيم كاميرات مراقبة الفندق، إضافة إلى تحطيم بابه، محاولين اقتحامه، كما أن مجموعة أضرمت النار قرب تمثال الشهداء لجهة الجميزة. لم تشر القوى الأمنية في بياناتها إلى أي تحطيم لعتادها. ربما كانت تعتبر آلة سحب المال، وكذلك باب فندق «لو غراي»... مِن ضمن عتادها!
المُسلسل طويل. لم ينته بعد. لكن فلنتوقف الآن عند «مضحكة» اسمها «أمر تحصيل مالي» ضد المتظاهرين! لا بُدّ أن تتحوّل هذه المسألة إلى طرفة شعبيّة. طرفة سوداء طبعاً.