هذه المرّة قد تكون الثابتة للأسف. تناقلت صحف ومواقع منذ ليل الخميس الحكاية التي تريّثنا في نشرها، لكي لا نكون طائر الشؤم الذي تفوح منه رائحة الخراب. لكن الخبر بات رسميّاً: «السفير» تعيش آخر أيّامها.
زملاؤنا في حالة ذهول. يجدون صعوبة في استيعاب الصدمة، رغم حالة القلق والإحباط وتوقّع الأسوأ التي يعيشونها منذ أشهر، وتحديداً منذ الأزمة الأولى التي هزّت الجريدة البيروتيّة العربيّة في ربيع 2016. الأستاذ طلال سلمان، ناشر الجريدة ورئيس تحريرها، جمع موظفيه وأبلغهم بقراره، معلناً إسدال الستارة على مسرحيّة تراجيديّة عنوانها: يوميّات موت معلن. لم يصدر حتى لحظة كتابة هذه السطور أي بيان رسمي، أو رسالة إلى القرّاء، لكن الاحتمال الغالب أنها نهاية حقبة في تاريخ الصحافة اللبنانية. هكذا ينتهي نصف قرن صاخب طبع حياتنا العامة والخاصة. السبب؟ أن «السفير» «لم تتمكن من تجاوز عثراتها المالية». المهلة؟ «ستتوقف عن الصدور نهائياً مع ختام هذا العام». الإجراءات القانونيّة؟ وزارة العمل تبلّغت هذه المرّة حسب الاصول، و«سيأخذ الجميع كامل حقوقه». الجميع، أي ١٢٠صحافياً وتقنياً وفنياً وإداريّاً، بينهم من صرف حياته في هذه المؤسسة، وساهم في صنع نجاحات «السفير» منذ عقود.
علينا الآن أن نتهيّأ لمواصلة حياتنا من دون جريدة «السفير» التي ستغيب حتّى عن العالم الافتراضي، حسب المعلومات المتوافرة حاليّاً. والشائعات الملحّة تتحدّث عن عناوين أخرى ستغيب عن الأكشاك في وقت قريب، لكننا نمتنع عن ذكرها الآن، لنردّ النحس عن زملائنا أطول وقت ممكن. وبسرعة تحضر الأسئلة المتعلّقة بمستقبل الصحافة المكتوبة في لبنان. ونستعيد الجدل حول الأسباب والمسؤوليات التي تقف وراء أزمتها القاتلة، وهي أكثر تعقيداً من الخطاب التبسيطي الذي يشنّف آذاننا به بعض المعنيين. كلا ليس الإنترنت (وحده) هو المسؤول! يكفي أن نراجع حجم توزيع الصحف (بمئات الآلاف) في كيان العدوّ. الطامة الكبرى أن نخسر الثقة مع القارئ، أن تنقطع معه علاقة الغواية والتفاعل والفائدة المشتركة. علينا أن نتوقّف عند عجزنا الجماعي عن التفكير في البدائل المطلوبة، وفي التحوّل إلى أنماط إنتاج صحيّة وعصريّة وعقلانيّة وشفافة وفعالة ومربحة.
صباح الثلاثاء كشف رئيس لجنة الإعلام والاتصالات النيابية، في مؤتمر صحافي، عن إنجاز اقتراح قانون الإعلام العتيد وإحالته على الهيئة العامة لمجلس النواب. شرح لنا النائب حسن فضل الله أن القانون الجديد «سيحمي الحريّة»، وهو كلام مشكوك فيه حتّى إثبات العكس (الشك لا يطاول شخصاً محدداً، بل الخطاب السلطوي نفسه). لكن لنسلّم جدلاً أن حريّتنا في النقد والنقاش وكشف المسكوت عنه، هي الهاجس الفعلي للطبقة الحاكمة، ومن يتواطأ معها من مؤسسات نقابية بالية. ألا ينبغي أن تبقى هناك صحافة أوّلاً كي تتمتّع، من ثمّ، بالحرية الموعودة؟ مشروع القانون الجديد يريد كسر احتكار الامتيازات «كي يصبح بوسع الجميع إنشاء الصحف» من دون عراقيل مادية. جميل! بأيّة فلوس؟ الصحف القليلة المتبقية تُحتضر… فهل سيأتي من ينشئ غيرها فعلاً؟ منذ أشهر، هناك على مكتب رمزي جريج، وزير الإعلام في حكومة تصريف الأعمال، مشروع قانون لدعم الصحافة الورقيّة، مُستلهم من الإجراءات المعتمدة في بعض الديمقراطيات الكبرى: من تقديم مساعدة للصحف توازي حجم المبيع (وهذا يفرض شفافية على الصحف)، إلى مختلف أشكال الدعم غير المباشر عبر التسهيلات والإعلانات والقروض. لم يأبه للأمر أيٌّ من ممثلي القوى السياسيّة في الحكومة، تلك التي تتحمّل قسطاً من المسؤولية في احتضار إعلام دجّنته، وجعلته تابعاً ومتواطئاً، أي خائناً للرأي العام، وأفقدته بعضاً من روحه.
لا يختلف اثنان على أن الحل الصحّي لأزمة الصحافة المكتوبة، يبدأ من دعم القطاع العام له، إضافة إلى شراكة عقلانيّة شفّافة مع القطاع الخاص، شرط تجديد البنى والعقليّات والمقاربات الإداريّة للصحف طبعاً، بعيداً عن منطق البزنس المشخصن أو العائلي. وشرط إعادة النظر بجوهر عملنا، أي السياسات التحريريّة واحترام القواعد المهنيّة ومبدأ الاستقلاليّة، والانسجام مع الذات، ورفع سقف النقد وتشجيع العمل الاستقصائي، وإعادة الاعتبار إلى الموهبة وتجديد الشكل واللغة والأدوات، واحترام القارئ. احترام القارئ؟ تبدو العبارة مضحكة، أليس كذلك؟
هل فات الأوان على هذا الكلام، وسبق السيف العذل؟ هل نمشي في جنازة شقيقتنا «السفير» عاجزين، مطأطئي الرؤوس؟ اليوم كلّنا في الدوامة صحافيين وقرّاء، ومعنا الحياة السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والاجتماعيّة. أي بلد هذا الذي لم تعد فيه صحف؟ نحن في «الأخبار» نؤمن، أكثر من أي وقت مضى، بأنّ من الممكن، بل من الضروري والحيوي، إنقاذ الصحافة اللبنانيّة.