عبثاً تمرّ بهم الكاميرات مرة تلو أخرى؛ وجوه كأنها صفراء تضحك من دون سبب. تكرار النكات عن النواب غير المعروفين جعلهم معروفين: يعرفون بأنهم غير المعروفين. يبتسم النائب عقاب صقر كأنه يضحك لمعرفته أنه يحكم البلد، يراقب مطرقة الرئيس نبيه بري ويقول لنفسه: جزء من البلد.النائب محمد كبارة وزير. «معالي الوزير»، يقول له عنصر الأمن والصحافيون عند باب المجلس. من قال إن الفرص معدومة في هذا البلد، ولا يمكن «ونّيش المرفأ» أن يصبح وزير عمل إذا أصعده ضابط استخبارات درجة، وغيره درجات؟ «معالي الوزير معين المرعبي». أكثر النواب حماسة في تأييد ثورة التكفيريين وزيراً لشؤون النازحين السوريين. توزيع النواب في القاعة العامة يوحي بتوجه قوي صوب دمج كتلتي المستقبل والتغيير والإصلاح بكتلة واحدة، يتناوب الوزير جبران باسيل والرئيس فؤاد السنيورة على ترؤسها. جائزة الترضية للنائب سمير الجسر هي إفساح المجال أمامه لإلقاء كلمة المستقبل ومنح الثقة بالنيابة عن السنيورة وكتلته.

ملحم رياشي وزير، وإبراهيم كنعان... يلقي كلمة التكتل. النائب سيمون أبي رميا استبشر خيراً مما رآه وسمعه، فخرج ليقول بوصفه رئيس لجنة الشباب والرياضة إن إعادة الثقة تبدأ بإعادة ثقة الشباب اللبناني بوطنه. لم يقلها صراحة، لكنه يعتقد أن انتقال الوزير محمد فنيش إلى وزارة الشباب والرياضة خطوة كبيرة في هذا الاتجاه. غياب النائب سليم كرم يرخي بثقله على الجلسة. من كان يكتب الخطابات العونية عن «قانون انتخابيّ عادل يحقق المناصفة» يكتب الخطابات الحريرية هذه الأيام، ومن كان يكتب الخطابات الحريرية يكتب للعونيين. تكاد تسيل الدموع من عيني الوزير سليم جريصاتي وهو ينظر بحب وعطف إلى الرئيس سعد الحريري، وينكبّ على صياغة لقب لرئيس حكومته أسوة بالألقاب التي يوزعها على من يحبهم. طلال أرسلان في مقاعد الوزراء غيره في مقاعد النواب؛ يؤثّر الأمر في نفسيته، وبالتالي نضارة بشرته بشكل واضح. تسجل جيلبرت زوين على ورقة صغيرة وزراء الرئيس سعد الحريري ووزراء الوزير جبران باسيل ووزراء النائب السابق منصور البون؛ كان لديه الوزير وائل أبو فاعور صار لديها عشرة على الأقل.

كان لغياب النائب سليم كرم وقع قاس على الحياة التشريعية التي لم تعتد الانتظام من دونه!

من أكثر تأثيراً في كسروان: وزارة الأشغال أم الثنائية المسيحية؟ فجأة يضطرب النواب، إذ يكتشفون تغيّب الرئيس نجيب ميقاتي وزميله أحمد كرامي، فلا يمكن الحياة البرلمانية أن تنتظم من دون حضورهما، ولا سيما كرامي. لكن سرعان ما يتبين لهم أن كتلة التضامن، وهي غير حزب التضامن، أصدرت بياناً اعتبرت فيه انتخاب العماد عون رئيساً هو صفقة سياسية، فيما الرئيس ميقاتي من أنصار «التسويات الوطنية الجامعة» المماثلة لتلك التي أوصلته إلى رئاسة الحكومة، سواء عام 2005 أو عام 2011. المرشح الجدي من الآن وصاعداً إلى رئاسة الجمهورية إميل رحمة كان غائباً بالمناسبة أيضاً.
في التسعينيات كان ثمة أكثر من نائب ينتظرون دورهم للصعود إلى المنبر النيابي ليُسمعوا الحريرية السياسية بعضاً مما تستحقه، أما اليوم فيبلغ الفراغ حد انتظار النائب خالد ضاهر ليحجب الثقة. الثقة مطلقة ــ هذه الأيام ــ بسعد الحريري. يمكن العونيين والمردة مثلاً أن يختلفوا قليلاً، يمكن القوات والقوميين أن يتمايز أحدهما عن الآخر قليلاً أيضاً. لكن الأساس: الحريري خط أحمر. الحريري هذا الإنسانيّ المجتهد في القراءة والإملاء، الطباخ الماهر اللبناني الأصيل، الأبيض الكفين. يمكن العودة إلى حلف 2005 الرباعي وما قبله من أحلاف دون رمشة عين: لا يوجد ولو صوتاً خافتاً يقول للحاضرين إن أياديهم سود. يمكن إبراء الجميع، وها هم ينبهر بعضهم بالبعض الآخر أمام الكاميرات. يتحدث نواب المستقبل عن النائبين عباس الهاشم ونبيل نقولا كما كان يتحدث المراهقون في التسعينيات عن نينا وريدا بطرس، فيما يفترض أن يحلّ عمار حوري محل جورج ياسمين في إجراء المقابلات السياسية على قناة أو تي في. الدمار شامل؛ يسميها ميقاتي صفقة وهم يسمونها تسوية، فيما هي في الشكل مصيبة حقيقية. حتى الرئيس نبيه بري الذي كان يعوّل البعض على حرده للحؤول دون اصطفافهم جميعاً في الخندق نفسه قرر كسر الشرّ ونزل إلى الخندق نفسه. لكن لا بدّ من التروي قليلاً، فالمشهد يبين تناغماً كاملاً بين الأفرقاء السياسيين، لكن لا شيء يؤكد، حتى الآن أقله، أن هذا يخدم المشروع الحريريّ ومن شأنه توسيع نفوذ الفساد. فصحيح أن البيان الوزاريّ لم يتطرق إلى استعادة وسط بيروت من سارقيه مثلاً وتحرير السوق الحرة وقطاع المقاولات والنقل البحري والجوي وفتح تحقيقات جدية في ملفات الفساد المعروفة، إلا أن الحريري انتخب مبتسماً العماد عون رئيساً، وأسند مبتسماً أيضاً حقيبة العدل للمحامي الأجرأ في وقوفه إلى جانب حزب الله في وجه المحكمة الدولية، ويردد مبتسماً أيضاً البند المتعلق بحق اللبنانيين بتحرير أرضهم ومطاردة التكفيريين حيثما كانوا، وثمة معلومات أولية لكنها جدية عن توجهه صوب تنازلات إضافية أكبر في قانون الانتخاب. الأساسات التي قامت عليها الحريرية السياسية تترنح هذه الأيام. وبعيداً عن مداخلات النواب بات واضحاً وشبه أكيد أن عنوان المرحلة هو إعادة العمل بالمناصفة مع كل ما يتطلبه ذلك من تنازلات حريرية. والمقابل؟ تقول الأوساط السياسية إنه تأمين مقومات الأُحادية الحريرية في الطائفة السنية. التلويح بالنسبية يهدد هذه الأُحادية، وضع فيتو على توزير معين المرعبي الذي من شأنه إقلاق راحة النائب خالد ضاهر في عكار كان سيهددها أيضاً، وحفظ ماء وجه الرئيس نجيب ميقاتي أو غيره يهددها أيضاً وأيضاً. فهي هشة وكرتونية ويمكن من أسقط المشروع الكبير من القصير إلى حلب أن يسقطها بسهولة هائلة من دون خشية من البديل. وهكذا يمكن القول إن الحريري يقدم تنازلات لكنه يحقق مكاسب، ويكفيه في ظل الانكفاء السعودي وأوضاع التكفيريين في المنطقة أن يكون رئيساً للحكومة وزعيماً للطائفة السنية. علماً أن الحديث عن توق حريريّ إلى فتح مغاور السلطة فيه الكثير من المبالغة. ففي وزارة «العمل»، لا شيء «يحرز»، فيما لا شيء البتة في «الثقافة». أما «الاتصالات» فصفقاتها المحتملة تخضع لتقاسم عادل بين الجميع دون استثناء، و»الداخلية» استحدثت خلال العامين الماضيين كل ما يمكن استحداثه من مشاريع. أما النفط والدفاع فهما أهم ما في السلطة اليوم، ولا يشك من يعرف وزيريهما باستحالة فتحهما أية شبابيك جانبية للصفقات الحريرية. وعليه ثمة الكثير من الكذب في المجلس النيابي هذين اليومين، ومبالغة في تودد الخصوم السابقين بعضهم للبعض الآخر، ومشهد يوحي بعودة الحكم إلى ما كان عليه في تسعينيات القرن الماضي. لكن لا شيء في المقابل يدفع إلى القول إن الحريري سيكون المستفيد الأول من هذا كله. فهو حتى الآن الخاسر الأول الذي يخفي في ظله صفاً طويلاً من الخاسرين تتقدمهم القوات اللبنانية. يمكن الحريري أن يواصل التظاهر بأنه الرئيس القوي للحكومة، ويمكن المجلس النيابي أن يُسمِعَه ما يريده. ولا شك في أن غياب الحماسة العونية لفضح الأيادي السود يُحبط قليلاً. إلا أن مشاهدة رئيس الحزب القومي الوزير علي قانصو وهذا الكمّ من الوزراء العونيين ووزراء المردة وحزب الله يحيطون بالحريري متبسمين، يؤكد أن ما أُخِذ بدهاء دبلوماسيّ هادئ لا يُسترد إلا بدهاء دبلوماسيّ أهدأ. ولعل الرئيس فؤاد السنيورة هو الوحيد المتصالح مع نفسه إلى درجة يرفض فيها المشاركة في هذا الإذلال المتمادي لفريقه.