مع الجلسات النيابية لمنح الحكومة الثقة، تدخل الحكومة والقوى السياسية، بجدية، مرحلة مناقشة قانون الانتخاب. فمع بداية السنة الجديدة، لم يعد أمام هذه القوى مجال للتهرب من مواجهة هذا الاستحقاق، بعدما أرجئ منذ سنوات، على قاعدة الانتهاء من الشغور ومن ثم إجراء الاستحقاقين الرئاسي والحكومي تباعاً. ومع انتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل الحكومة، بات الجميع أمام هذا التحدي الذي يضع القوى السياسية في مواجهة نفسها، لإقرار قانون جديد للانتخاب، أو التسليم بأن قانون الستين باق من دون منازع.
وسط هذا المشهد، وفي خضم النقاش المفتوح حول قانون الانتخاب، تشير مصادر سياسية الى حساسية موقف حزب الله وأدائه اللافت في هذا الملف. ثمة ما هو مبهم في طريقة تعاطي الحزب مع القانون، لأنه مهما كان نوعه فإن حصة حزب الله لن تتأثر سلباً، لا في النسبية ولا في قانون الستين ولا في المختلط. ارتياح حزب الله الى قاعدته الانتخابية وجمهوره، وتالياً الى حصته في المجلس النيابي، لا يفترض، مبدئياً، أن يترجم بدخوله على خط نقاش قانون الانتخاب بقوة تعادل قوة تدخله في الانتخابات الرئاسية. لكن ما يحصل هو أن الحزب بات موجوداً وحاضراً في شكل يدعو الى التساؤل، ولا يزال يحتاج الى قراءة متأنية لفهم أسبابه الحقيقية، التي تتعدى نقاش أي كتلة سياسية للقانون المذكور.

قال الحريري إن «الحكومة لم تأت
لتثبيت سوابق أو تكريس أعراف»

ففي المرحلة التي سبقت الانتخابات الرئاسية، كان الحزب يصوم أسابيع وشهوراً عن الكلام فيها، ليعود بفاعلية الى الحديث عنها وقول ما يريده منها ومن المرشح الذي يدعمه أو يرفضه. في الحكومة وتأليفها، أوكل الحزب الى الرئيس نبيه بري التفاوض حول التأليف، وترك له فكّ الاشتباك مع رئيس الجمهورية والرئيس المكلف. في الظاهر تسلم بري دفة التفاوض. لكن مجرد أن يعطي الحزب بري أمر التفاوض، يعني بحسب هذه المصادر أنه تدخّل في تأليف الحكومة التي كان منذ البدء مع ارتفاع عددها الى 30 وزيراً، ولو لم يحصل إلا على وزيرين فحسب، من دون أن نغفل أن الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله تحدث علانية عن الحكومة وضرورة تسهيل تأليفها.
اليوم، وفي ظل العودة الى نقاش قانون الانتخاب، كان لافتاً دخول نصرالله على خط القانون، بكلامه أولاً عن النسبية الكاملة كممر إلزامي لبناء الدولة، ومن ثم تدوير الزوايا حولها وتوجيه رسائل الى المعترضين عليها، بمن فيهم النائب وليد جنبلاط، وتفهّم هواجسهم، مبدياً الاستعداد للنقاش في القوانين الأخرى المطروحة. وكذلك، فإن المكلفين بمتابعة القانون من نواب الحزب ومسؤوليه، لهم أيضاً مواقفهم من القانون ومشاركتهم في تقديم اقتراحات حوله، سواء لجهة النسبية الكاملة أو الجزئية أو مشروعي الرئيس نبيه بري المختلط، والمبني على التأهيل الأكثري على مستوى القضاء والفوز بالنسبية على مستوى المحافظة.
يمكن القول إن هذا التطور في موقف الحزب يشغل المواكبين السياسيين لأدائه، لأنه لم يعتد التصرف على قاعدة إشهار نفسه على أنه يمسك بكل الاوراق بيده. لكن، في الآونة الاخيرة، كثرت الاشارات التي يرسلها، بأنه يمسك مفاتيح اللعبة الداخلية من انتخابات الرئاسة التي أفرج عنها، وتأليف الحكومة التي لم تحل مشكلاتها الكثيرة إلا حين أعطى الضوء الاخضر عبر بري لصدور مراسيمها. واليوم، يعيد تأكيد دوره وفاعليته في تحديد مصير قانون الانتخاب، كما لم يسبق له أن فعل، في شكل يطرح أسئلة عن خلفية أدائه الذي يوحي بأنه سيحدد هوية القانون كما حدد وجه الرئاسة والحكومة معاً، فتتحول رؤيته له أمراً واقعاً، لا يمكن للقوى السياسية الاخرى تخطيه بسهولة.
في كلمته بعد تأليف الحكومة، قال الحريري إن «الحكومة لم تأت لتثبيت سوابق أو تكريس أعراف». لكن ما حصل هو العكس، ولا شيء يضمن أن ذلك لن يتكرر مستقبلاً، ولن ينسحب كذلك على وضع قانون الانتخاب. فانطباعات المرحلة الاخيرة من تعاطي الحزب مع إعادة تكوين السلطة، تدفع الى الاعتقاد بأن هناك محاولة من الحزب وبري لتثبيت نهج للضغط على النظام السياسي وترسيخ أعراف قد تستخدم في مرحلة لاحقة، لا سيما مع ما يرسم من سيناريوات للمنطقة، بما فيها سوريا، بين تقسيم وفدرالية أو محافظة على الجغرافيا مع نظام سياسي آخر، لأن الإشارات المختلفة التي أعطيت منذ الانتخابات الرئاسية وتأليف الحكومة، وصولاً الى البحث الحالي حول هوية القانون وما سيتركه من تأثيرات على شكل المجلس الجديد، توحي بأن الحزب يريد الاستعداد مسبقاً لمرحلة يمكن أن يفتح فيها النقاش السياسي حول مصير النظام ومستقبله، فيسعى مسبقاً الى تجميع أوراقه مع حلفائه محلياً. من هنا يمكن فهم زيادة أساليب الضغط على النظام الحالي من خارج الأطر التقليدية، حتى يبدو المشهد موزعاً بين ثلاث صور: الاولى لحزب الله وبري اللذين يتعاملان مع النظام الحالي على أنه نظام الطائف + أعراف الثنائية الشيعية. الثانية للحريري الذي يتعامل معه على أنه الطائف + طريقة تنفيذه أيام الرئيس الراحل رفيق الحريري. أما المسيحيون فيحاولون لملمة ما تبقى من الطائف متأخرين 25 سنة.