أن تبحث إسرائيل عن بدائل للحرب المقبلة في مواجهة حزب الله، دليل اضافي على أن الحرب متعذرة. والتعذر لا يخلو من وجهين: عدم القدرة على تحقيق النتيجة من خلال الحرب العسكرية، و/أو عدم القدرة على تحمُّل أثمان الحرب. الوجهان قائمان، ويفسّران امتناع إسرائيل عن شنّ «حرب لبنان الثالثة»، رغم كل الظروف الدولية والإقليمية، والذرائع المتوافرة لديها «غب الطلب»، والمواتية كي تحفز صانع القرار في تل أبيب على تحقيق مصالحه في مواجهة حزب الله بالقوة العسكرية.
خسارة إسرائيل حرب عام 2006، والفشل في تحقق أهداف الحرب، والتداعيات السلبية في أعقابها لصورة إسرائيل ومكانتها، عوامل كافية بذاتها، كي تدفعها إلى تكرار المحاولة العسكرية، بعد استعداد وجاهزية لخوض حرب جديدة. زاد على ذلك، كما تؤكد تل أبيب، انشغال حزب الله في القتال السوري وصدّ الهجمة التكفيرية على لبنان. الأكثر من ذلك، تأكيد تل أبيب ــــ عن حق ــــ أن الدول العربية «المعتدلة» ستصفّق لها، إن هي قررت شن حرب على حزب الله.
هي حرب، إن استطاعت إسرائيل أن تحقق نتيجتها (اجتثاث حزب الله) فلن تقتصر تداعياتها الإيجابية على اجتثاث التهديد الاستراتيجي الأول لإسرائيل، بل ستشمل أيضاً التداعيات على مجمل المعركة القائمة حالياً في المنطقة بين المحورين المتقابلين، حيث إسرائيل جزء لا يتجزأ من المحور المعادي لمحور المقاومة بامتداداته وحضوره الإقليمي.
منذ 11 عاماً، تتراكم الحافزية الإسرائيلية لشنّ الحرب. الاستعداد والجاهزية الإسرائيليان وصلا إلى حدود السماء، مع ظروف مناسبة ومواتية ومحفزة، إقليمياً ودولياً. مع ذلك، تمتنع إسرائيل عن شن الحرب. بل تمتنع عمّا قد يسبّب «الدحرجة» إليها، إلى الحد الذي تكشف، بصورة مباشرة ورسمية، وعلى لسان كبار المسؤولين فيها، أن مصلحة إسرائيل باتت، رغم استعدادها العسكري غير المسبوق، في منع نشوب الحرب المقبلة، وفي أقل تقدير تأجيلها أطول فترة ممكنة.
والإقرار الإسرائيلي بضرورة الامتناع عن شن حرب جديدة، ما أمكن ذلك، مرده الثمن. وهو نتيجة معادلة تحققت خلال السنوات الـ 11 الماضية، من خلال التعاظم العسكري المتواصل لحزب الله، وآخرها كما بات معروفاً، ومقراً به إسرائيلياً: الحجم والدقة وشدة التدمير. وهو ثمن تجاوز كونه مجرد عامل مقارنة لاحق في حال نشوب الحرب، لتحديد من تضرر أكثر من الطرفين. بل وصلت مستوياته إلى الحد الذي يحول دون إخراج تل أبيب قرار الحرب إلى حيّز التنفيذ. وفي هذا المعنى، يعطي سلاح حزب الله، بتعاظمه غير المسبوق، المفاعيل الردعية المانعة للاعتداء على لبنان، حتى من دون استخدامه الفعلي.
من هنا، منبع التوجهات الإسرائيلية للبحث عن بدائل للحرب العسكرية المباشرة في مواجهة حزب الله بما يصطلح عليه إسرائيلياً «الخيارات البديلة»، وهي خيارات تعمل إسرائيل على إيجادها، بمعية الإدارة الأميركية و/أو حلفائها في المنطقة، للتضييق على حزب الله أو إشغاله عنها أو إضعافه أو حتى اجتثاثه إن أمكن. وهذه هي الاستراتيجية الإسرائيلية المتبعة منذ عام 2006.
في ذلك، صدرت عن إسرائيل مواقف وتصريحات دالة على هذه الاستراتيجية، كما كتب الكثير عنها، بمشاركة معززة من مراكز الدراسات المتخصصة البحثية العبرية، التي خصصت جزءاً واسعاً من دراساتها وندواتها للبحث عن البدائل الأكثر جدوى في ملامسة النتائج المرجوة... فضلاً عن «عصف الأفكار» لدى مؤسسة الاستخبارات الإسرائيلية، وكذلك بينها وبين نظرائها في الولايات المتحدة. والسؤال المتسمّر على طاولة البحث هو الآتي: كيف نشغل أو نضعف أو حتى نجتثّ حزب الله، من دون حرب مباشرة، تجبي من إسرائيل الثمن؟
قبل أسابيع، كشفت صحيفة «يديعوت أحرونوت» عن جلسة خاصة للمجلس الوزاري المصغر للشؤون الأمنية والسياسية في تل أبيب، خصصت للبحث في إمكان شنّ عدوان جديد على لبنان، وإن كانت الجلسة كما ورد من التسريبات قد شهدت تردّد المؤسسة الأمنية وخلافات بين الوزراء وسجالات. إلا أن النتيجة النهائية خلصت إلى الامتناع عن شنّ العدوان. لكن الأهم في تقرير الصحيفة تشديدها على الآتي: من سيقرر الخروج إلى حرب في مواجهة حزب الله، عليه أن يدرك من الآن أنه سيواجه لجنة تحقيق في أعقاب الحرب. وهذه النتيجة ــــ التحذير، دليل إضافي على تسالم الإسرائيليين، بالفشل المقدَّر مسبقاً، في الحرب المقبلة.
وللدلالة على المستوى المرتفع لفاعلية الثمن والخسائر المقدَّر أن تتكبدهما إسرائيل في مواجهة حزب الله، ومن ضمن الكتابات الهادفة إلى البحث عن «البدائل» في ظل الخشية من «حتمية» المعركة المقبلة وإن تأجلت، يكتب عيران تسيون، الذي عمل حتى الأمس القريب نائباً لرئيس مجلس الأمن القومي ورئيساً لشعبة التخطيط السياسي في وزارة الخارجية الإسرائيلية، مقالة في صحيفة «هآرتس». ومضمون المقالة لا يعبّر فقط عن رأي خبير متخصص، بل عن شخصية شاركت فعلاً في النقاشات الرسمية للبحث عن خيارت غير عسكرية وبدائل عن الحرب المباشرة، في ظل الإدراك الفعلي لويلاتها وأثمانها.
ويشير تسيون إلى ضرورة تحرك المؤسستين السياسية والعسكرية وأصحاب الاختصاص للبحث عن بدائل تغني عن العمل العسكري في مواجهة حزب الله، وذلك قبل التدهور إلى حرب مع لبنان تكون نهايتها لجنة تحقيق. ويلفت إلى أن الجميع في إسرائيل سيكون عرضة لدفع ثمن الحرب، الأمر الذي يفرض البحث في بدائل عنها، أو تقليص أثمانها. ويضيف أن إسرائيل، وإن كانت ستدمر بنى تحتية مدنية وأحياءً سكنية في بيروت، لكن حزب الله سيدمر، من جهته، بنى تحتية مدنية وأحياءً سكنية في مدن إسرائيلية، وكذلك المئات وربما الآلاف سيدفعون أرواحهم ثمناً للحرب، كذلك فإن صورة الانتصار سيحققها حزب الله في الأيام الأولى للقتال.
ويشير تسيون إلى ثلاثة أنواع من البدائل السياسية: خيارات بديلة تستبعد الإجراءات العسكرية من خلال توافق سياسي مسبق؛ بدائل سياسية تكمل خطوات عسكرية؛ وبدائل تحدد الإطار السياسي الاستراتيجي للخطوات العسكرية. أما بخصوص المسألة اللبنانية الحالية، فلدى إسرائيل بدائل سياسية كثيرة، ومن الأنواع الثلاثة.
من ضمن البدائل، يطرح تسيون عيّنة واحدة: تقترح إسرائيل إخراج أهداف مدنية من دائرة القتال في أي مواجهة مستقبلية، ويلتزم الطرفان ويتعهدان بالعمل في حالة الحرب ضد أهداف عسكرية فقط. فائدة هذا التوجه منح حصانة لأهداف إسرائيلية مثل منشآت الغاز في المتوسط و«أبراج عزرائيل» (في تل أبيب) وأحياء سكنية في المدن. في موازاة ذلك، تحصن أهداف لبنانية مثل المطار ومحطات ضخ المياه والكهرباء أو أحياء في بيروت، وتكون خارج نطاق القتال. النتيجة، أن الطرفين يوجهان سلاحهما ضد أهداف عسكرية فقط.
لكن هل يوافق الجانب اللبناني على هذا الاقتراح؟ يسأل تسيون ويجيب: وفقاً لعمل سياسي صحيح، يمكن تشكيل ضغط داخلي لبناني وإقليمي ودولي، لدفع الجهات الفاعلة في لبنان إلى إيجاد صعوبة في رفض منح الحصانة للجبهة المدنية في بلدهم. التبرير الأساسي الذي سيستخدمه رافضو الاقتراح هو أنه لا يمكن الوثوق بإسرائيل، وهنا يمكن وضع ضمانات واسعة من قبل الولايات المتحدة وروسيا والأمم المتحدة وأوروبا ودول عربية ترغب في استقرار المنطقة.
وصول النقاش في إسرائيل، إلى هذا الحد، وهذا المضمون، هو انتصار لا لبس فيه لحزب الله وسلاحه وتعاظم قدراته. الخشية والارتداع من الحرب، وللمفارقة، التي باتت محفورة في الوعي الإسرائيلي، تدفع إسرائيل وخبراءها ومراكز أبحاثها، إلى البحث عن بدائل للحرب العسكرية التي باتت أثمانها تحفز البحث عن «الخيارات البديلة». التفكير طويلاً بالأثمان والجدوى منها، وهو واقع لم تعتد إسرائيل مواجهته.