ما حدث على شاشة «أل بي سي آي» مساء الخميس، في برنامج مرسال غانم «كلام الناس»، معيب، ومقلق، وغير مقبول. بل في منتهى الخطورة، ويحتّم علينا أن نطرح التساؤلات، ونستخلص العبر، ونطالب بالمحاسبة. ترى هل تحنّ «أدما» إلى ماض تليد تجاوزته إلى خيارات وطنيّة أرحب؟ لا علاقة للموضوع هنا بحريّة التعبير والنقد، المقدّسة في نظرنا، بل بإعادة الاعتبار إلى «المشروع الإسرائيلي» الذي دغدغ أحلام الانعزاليّة اللبنانيّة في فترة قاتمة من تاريخنا.
هذا المشروع الانتحاري الذي كان من شأنه أن يستدرج إلى الجحيم فئة أساسيّة من الشعب اللبناني، بل كان من الممكن أن يأخذ البلد كلّه إلى الخراب… لم يخضع بعد في لبنان لمراجعة وطنيّة حقيقيّة، علماً بأنها خطوة لا بدّ منها لتحصين الوحدة الوطنيّة، وبناء مستقبلنا على أسس ومبادئ جامعة وصلبة ونهائيّة. هناك كتب ووثائق وشهادات فظيعة حول علاقة فئات وقوى وتيارات وشخصيّات وأحزاب لبنانيّة بالعدو الإسرائيلي… لكنّ أسباباً كثيرة حالت حتّى الآن دون إعادة فتح الملفّات الشائكة رسميّاً عندنا، بطريقة سليمة. لقد غرقنا في كوما جماعيّة، وواصلنا «إعمار لبنان».
هناك طريقتان لا ثالث لهما لاستعادة بشير الجميّل إعلاميّاً في بلدنا؛ فإما الأسلوب الدعائي الترويجي الذي يمجّده ويدافع عن أخطائه المميتة، أو يبرر لها، أو يتجاهلها، أو يقدّمها كـ«بطولات»، وإما مقاربة هادئة عقلانيّة متوازنة، تستند الى الوثائق، وتتّسع لكل وجهات النظر (بما فيها تلك التي تعتبر إعدامه فعلاً وطنيّاً). المقاربة الثانية تدقق في الحقائق والنتائج، تسمّي الأشياء بأسمائها، وتمتلك جرأة الاعتراف بالخطأ، والقدرة على إقناع فئة متضائلة من اللبنانيين، ما زالت تعتبر بشير «بطلاً قوميّاً للمسيحيين»، بأن مصيره الحقيقي في مطهر القادة الذين خذلوا شعوبهم وتعاملوا مع أعدائهم، مثل الماريشال بيتان في فرنسا تحت الاحتلال النازي. من الواضح أن مقدّم «كلام الناس» اختار المقاربة الأولى لدى تخصيصه حلقة عن «بشير الجميّل لو حكم». بل إن الحلقة بدت كأنّها تحمل أجندة سياسية واضحة يمكن اختصارها بأبلسة المقاومة (بدءاً بلقطات البرومو)، بصفتها «عمالةً» و«احتلالاً»، وتمجيد غير مباشر لإسرائيل، بصفتها «وجهة نظر» بأقل تعديل، لكي لا نقول بصفتها «منقذة المسيحيين من الإبادة»، و«محرّرة» لبنان من… «الفلسطينيين والسوريين»! هل لهذا الخطاب الذي قامت عليه السرديّة الانعزاليّة، مكانه اليوم في لبنان؟ أهي محاولة تشويش، في لحظة ترنّح المشروع الأميركي ــ الإسرائيلي ــ الوهابي في المنطقة؟ أم أحد بالونات الاختبار التي نقع عليها في السياسة والفن والاعلام والثقافة، وهدفها تلمّس الهامش المتاح اليوم لخطاب يؤنسن إسرائيل، ويجد لها مكاناً «طبيعيّاً» في الحياة السياسية اللبنانيّة؟
طبعاً مثل هذه المهزلة لا تكتمل إلا ببطل تراجيكوميدي مثل نديم الجميّل. لقد حمّس مقدّم «كلام الناس» ضيفه، وأخذه إلى منزلقات خطرة، فإذا به يكبّل والده ويورّطه في معرض الدفاع عنه. «عندما تَواصلَ بشير مع الإسرائيليين (ظريفة كلمة «تَواصلَ»)، كان ذلك من أجل لبنان». يا سلام على هذا اللبنان! «بشير وصل إلى بعبدا على الدبابة التي حررت لبنان من الفلسطينيين والسوريين». ونِعم التحرير! ولو تعرّض «المسيحيّون» مجدداً لـ«خطر الإبادة»، فلن يجد الشيخ الصغير مانعاً من «الاستنجاد بإسرائيل». هؤلاء لم يتعلّموا شيئاً من دروس التاريخ، ولا يعرفون أنّهم هم الخطر الوحيد المحدق ليس بالمسيحيين وحسب، بل بلبنان كلّه. ولحسن الحظ أن زمن العملاء ولّى، وأن هذا الخطر بات شبه معدوم. هؤلاء لم يتعلّموا شيئاً، وما زال بينهم من ينظر إلى «إسرائيل» بصفتها «منقذاً» و«سنداً» و«حليفاً». والخطير في الأمر أن تتولّى محطّة مثل lbci تلميع هذا الخطاب البائس والترويج له. كان يكفي أن يردّ المقدّم على «الكلام الاسرائيلي» لضيفه، أن يأخذ مسافة منه باسمه واسم المحطة. عندما يريد مارسل غانم يتدخّل عادةً، كما فعل حين نعت بـ«السخفاء» من كانوا سيعترضون على وجود شهادات إسرائيلية حذفها مكرهاً من فيلم عرضه في إحدى حلقات «كلام الناس» عن موسيقي لبناني! لكن لا، بل بالعكس. لقد استحضر هذه المرّة كل التوابل اللازمة لترسيخ اتجاه الحلقة: اتصال من مي شدياق لنعيش معها لحظات نادرة في علم السياسة والاستراتيجيا. وذهب مرسال غانم الى اصطياد تغريدة ثمينة لمفكّر استراتيجي آخر هو فارس سعيد الذي يرى أن الوقت حان لإقامة «صلح مع إسرائيل»، بدليل أن «عرفات فعلها». ألم ترَ إلى أين انتهى عرفات يا غزال؟ وإلى أين أخذ شعبه؟ هؤلاء «السياديّون» فرجة! خسارة أن مرسال لم يجد تغريدة لأفيخاي أدرعي يتغزّل فيها بصديق إسرائيل الكبير بشير الجميّل!
كانت غريبة حفلة الهذيان ومقزّزة. أمام النائب البرتقالي فريد الخازن الذي «بقي محايداً» حسب تعبيره، عاجزاً عن محاججة «الفلتة» الذي أمامه، أو الكسر بخاطره. لا نعرف إذا كان حزب الكتائب يتبنّى أطروحات نائبه في الموضوع الاسرائيلي. بل إن القوّات اللبنانيّة نفسها تتفادى الخوض في وحول العلاقة بإسرائيل، أو استعادة الماضي العكر. كنا نظنّ أن زمن أرييل شارون في مطعم Au Vieux Quartier في الأشرفيّة خرج من رؤوس قيادات اليمين الانعزالي إلى غير رجعة. لكن هناك من لا يخجل به، على ما يبدو، ومن هو مستعد لإعادة الكرّة «إذا لزم الأمر». ما حدث على شاشة lbci مساء الخميس، في برنامج مرسال غانم «كلام الناس»، غير مقبول. ولا بد من محاسبة سياسية ودستوريّة وشعبيّة. فإما أن يسحب نديم الجميّل كلامه عن إسرائيل، ويؤكد على كونها عدوّاً ومحتلاً وقاتلاً، وإما أن تُرفع الحصانة عنه ويحاكم بتهمة الخيانة.