إنه عام 1993، زمن الهجوم الاميركي ــ الاسرائيلي ــ العربي نحو تصفية القضية الفلسطينية، وزمن الاستسلام لما سُمّي يومها مشروع السلام الكبير. يومها كانت قلة تفكر بطريق آخر. طريق مليء بالاشواك والتعب، وكله دم ودموع، لكنه لم يكن سوى البديل الوحيد الذي يمكن من خلاله مقاومة الانهيار.
في تلك الايام، كتب الراحل جوزيف سماحة حكاية السلام العابر، تعليقاً على وهم التصالح مع العدو، ودعوةً للمقاومة. ومنذ ذلك التاريخ حتى اليوم، انقلبت الصورة. ورغم استمرار القهر والتعب والدماء والدموع، بدأت النتائج المعاكسة بالظهور. صار جلياً أننا دخلنا زمن الانتصارات الحقيقية.
لكن، قد يكون من المفيد تذكير كثر، من الذين لا يزالون في زمن الوهم نفسه، بكيفية التفكير في مقاومة ما أرادوه يوماً مصيراً محتوماً لنا.
وفي هذا استعادة لما كتبه سماحة:
«قد لا نكون وصلنا إلى نهاية تدهورنا، ولذلك لن يكون درب الصعود سهلاً. لنوقف التراجع. هذه مهمة أولى. لننظّم المقاومة. هذه مهمة ثانية. لنتقدم نحو توازن رعب. هذه مهمة ثالثة. لنبدأ الحصار والتضييق. هذه مهمة رابعة. لننظّم الهجوم الحضاري العام. هذه مهمة خامسة. لا ترف في هذا الرد. إنه خبزنا اليومي. إنه الشيء الوحيد الذي لا بديل منه. إنه أبسط الحقوق.
لم نصل إلى حيث نحن، أي إلى شفير الهاوية، فجأة. نحن ندفع، الآن، ثمن مسارنا الانحداري والعدو يقطف ثمار انتصاراته. إننا ندفع بالجملة ومرة واحدة مستحقات الهزائم السابقة كلها، التي أنزلت بنا أو أنزلناها بأنفسنا. ويقبض الخصم ثمن التوظيف الذي وضعه في قهرنا. حان وقت الحساب الإجمالي الذي يختتم قرناً من المواجهة ويفتح عهداً جديداً.

منذ عام 1993 وحتى اليوم انقلبت الصورة،
وبدأت النتائج المعاكسة بالظهور. صار جلياً أننا
دخلنا زمن الانتصارات الحقيقية

مئة عام من الهزيمة العربية. فهل يشك أحد في حجم البدل المطلوب دفعه ممن أضاع على «الآخر» عشرة عقود من عمره؟ صحيح أن الذين دعموا إسرائيل لم يدفعوا، اقتصادياً، بدل إدارتهم للهزائم العربية. على العكس، ربحوا وأثبتت لهم إسرائيل أنها أحسن استثماراتهم الخارجية. غير أنهم صرفوا جهداً، ووقتاً، وأعصاباً في إلحاق الخسارات المتتالية بالعرب، وهم يريدون، اليوم، لا تعويض القليل من خسائرهم بل استلحاق النقص في الربحية الذي كان يمكنهم تحقيقه لو أن الأمة العربية لم يخطر على بالها تحصيل الحاصل: لا بد من محاولة المقاومة!
نعم، لقد فشلت هذه المحاولة، ولكن الفشل لا يغيّر شيئاً من أنها كانت واجباً وأنها كانت الخيار الوحيد. والمسؤولية العربية كبيرة جداً في هذا المجال. والوعي النقدي العربي كان قاصراً. غير أن ذلك لا يغيّر من طبيعة الأشياء ولا يقود إلى مراجعة تتحول إلى تراجع يقرأ الصراع بالمقلوب.
يجدر، هنا، الإصرار على توزيع عادل للمسؤوليات العربية. الذين لم يحسنوا الإعداد للمواجهة يقفون على مسافة فلكية من الذين دعوا، ويدعون إلى الاستسلام. من اجتهد ولم يفلح خير من الطابور الخامس. لو راكمنا أخطاء المقاومين جميعها لما كانت شيئاً أمام خطيئة الخيانة. وكل الأضرار التي ألحقتها الممانعة بالعرب هي أقل من تلك التي كان ألحقها الخنوع. ومع أننا نعيش عصراً يهدد بانقلاب في المقاييس، فإن ما يجب التمسك به والاعتقاد الراسخ بحتميته هو أن تاريخنا، عندما سنكتبه، سيتضمن سجلاً خاصاً لمن قاوم فأخفق، وآخر لمن رفع الراية البيضاء وساعد العدو على اختراق الجبهة العربية وإضعافها وكسر معنوياتها وصمودها.
الذين مانعوا وقاوموا كانوا على الدوام موطن الشرعية العربية. وليست قلة عددهم، في مرحلة ما، حجة عليهم. الآخرون زبد».

اليوم، نحن بحاجة الى عناصر جديدة، أوّلها، العمل على بناء قاعدة اجتماعية – اقتصادية – ثقافية، تطلق مشروع المصالحات الوطنية الكبرى، التي تعيد اللحمة الى مجتمعات لا بد لها أن تندمج في مشرق لا مناص له من العيش وطناً واحداً، ولو بمنازل كثيرة!