مشهد وزارة الدفاع أمس بدا شبيهاً بما حدث في مطار بيروت الدولي قبل نهاية كانون الثاني 2004. حينذاك، وقف أركان الدولة ليستقبلوا الأسرى المحررين من المعتقلات الاسرائيلية، نتيجة صفقة تبادل بين حزب الله وحكومة العدو. الفارق الأساسي بين المشهدين أن المحتفى بهم أمس كانوا، جميعاً، شهداء.
عام 2004، حررت المقاومة 23 أسيراً لبنانياً وسوريَّين وليبي و3 مغاربة و3 سودانيين و400 فلسطيني وأسير ألماني، واستعادت رفات 59 شهيداً لبنانياً. أما في اليرزة، فشهداء أتمّت الدولة واجبها تجاههم... بعد العثور على جثامينهم. المشهد كان ليكون كاملاً لو أن السلطة سبق أن دافعت عن جنودنا حيث كانوا، وأمّنت لهم ما يقيهم شر الاختطاف، ثم عملت بجدّ لتحريرهم بعد ارتكاب الجريمة بحقهم. الانتقاد هنا يصبح بلا جدوى. هكذا هو النظام في لبنان، لا يقيم أيّ وزن للبشر أحياء. بقعة الضوء الوحيدة تصدر عن المقاومة، التي أعادت الاعتبار لواحدنا، حياً كان أو شهيداً. لا أسرى يُتركون في السجون والمعتقلات. ولا جثامين تُدفن في مكان مجهول لتبقى جروح قلوب الأحبة مفتوحة. أينما كانت، فستعمل المقاومة على تحريرها. السلطة تحتفي بنا شهداء، عندما تكون قضية الشهداء «ربّيحة». والحديث عن السلطة لا يعني التعميم. فثمة من المسؤولين مَن لا ينظر إلى الأمور بهذه الطريقة. إلا أن نظرتهم تبدو أقرب إلى رأي شخصي لم يتحوّل بعد إلى سياسة عامة.
وبين اليرزة أمس ومطار بيروت يوم 29 كانون الثاني 2004، فارق جوهري إضافي. قبل 13 عاماً، أقرّت الدولة بما للمقاومة من فضل. أما يوم أمس، فأصرّت السلطة على إبقائها خارج الصورة، رغم أن كل ما في المشهد من إيجابيات كان للمقاومة الدور الأكبر في إنجازه. مصير الجنود الشهداء كان سيبقى مجهولاً لولا جهد المقاومين. ليس المقصود هنا سلب الجيش حقه. على العكس من ذلك. فثَبْت الحقوق أجدى للمؤسسة العسكرية من اختراع الأوهام. وأكثر ما يحزّ في النفوس ألا يخرج من يشكر المقاومة علناً. من اعترفوا بفضلها إنما فعلوا ذلك بصفتهم حلفاءها. أما السلطة، فناكرة للواقع وللجميل. ليس المطلوب التصاق الدولة بالمقاومة. لكن الواجب يقتضي ألا يكون الخطاب مناقضاً للواقع: قاتَل جنود الجيش وضباطُه، وأسهموا في صنع التحرير الثاني، جنباً إلى جنب مع المقاومين. والأخيرون لا يطلبون من الدولة شكراً ولا اعترافاً بالفضل. هم أصلاً ما عادوا يتوقّعون من السلطة سوى ما يُخجِل. أن تشكر الحكومة المقاومين لا يزيدهم رفعة، ولا يمنحهم شيئاً يفتقدونه. شكر المقاومين، والاعتراف بفضل الشهداء والجرحى وعائلاتهم، تعبيران عن الإقرار بما بين أيدينا من قدرة. شكر المقاومين لا يعدو كونه احتراماً للذات، وهو بذلك نقيض، شخصي وسياسي، لصفات أكثرية من يحكمون بلادنا.