يحمل وزر استباحة عرسال رجال السياسة وضباط فاسدون. رجال أمن كُلِّفوا بإدارة الأزمة الأمنية في بلدة يبلغ عدد اللاجئين فيها ضعفي عدد سكانها، لكنهم باعوها للمسلّحين. لم يعنهم أن تتحوّل هذه البلدة اللبنانية إلى مصدر تهديد لجيرانها، يوم أصبحت محطة انطلاق للسيارات المفخخة. باعوا دماء العسكريين الشهداء بالمال، في بلدة اجتمع فيها الشهيد كمال عز الدين والإرهابية جمانة حميد. الأول استُشهد مدافعاً عن عناصر فصيلة قوى الأمن وهو يحاول منع المسلّحين من اختطافهم، فيما الثانية ضُبطت متلبّسة بسيارة مفخخة كانت مكلّفة بإيصالها إلى بيروت لتفجيرها في مدنيين مقابل عشرة آلاف دولار.
رئيس الجمهورية العماد ميشال عون طلب إجراء تحقيق لتحديد المسؤوليات قبل كيل الاتهامات أو توزيع صكوك البراءة. هل يدري أصحاب المسؤولية أنّ ضابطاً كان مسؤولاً عن أمن عرسال، ضُبط سائقه وهو يُهرّب سلاحاً للمسلّحين؟ وهل يعلمون أن هذا الضابط نفسه كان يترك المسلّحين يسرحون ويمرحون بأسلحتهم بين عرسال وجرودها، مزنّرين بأحزمة ناسفة، من دون أن يُعطي أوامره بتوقيف أيّ منهم؟ وأنّ مطلقي الصواريخ على الهرمل كانوا يجتازون الحواجز من دون أن يُسألوا عن بطاقة هوية؟ هل يعلمون أن الضابط الذي خلفه، مكث أشهراً محافظاً على عرسال قبل أن يضعف أمام مغريات الفساد؟ صار بعدها يُعطي أوامره للحواجز بغضّ الطرف وعدم تفتيش هذه السيارة أو تلك، مقابل مبالغ مالية يقبضها من المسلّحين؟ كان هؤلاء يُهرّبون السلاح والمتفجرات، كما كانوا يُهرّبون المواد الغذائية لمسلّحي الجرود الذين اختطفوا العسكريين وذبحوهم. ولدى استخبارات الجيش تقارير أمنية تستند إلى معلومات من مخبرين وإفادات ضباط، تؤكد هذه المعطيات. وقد جرى نقل الضابط الثاني جرّاء شبهات الفساد هذه. هل الضابطان فاسدان؟ لا أحد يعلم. هل هما ضحيتان لقرار أكبر منهما بترك الساحة مفتوحة للإرهابيين؟ أيضاً، لا أحد يعلم. الحقيقة الوحيدة هي أن عرسال استُبيحت، والجنود خُطِفوا، ثم قُتِلوا.
قبل أيام، طلب وزير العدل سليم جريصاتي من النائب العام التمييزي سمير حمود إجراء تحقيق في جرائم قتل وخطف عسكريين في عرسال، وجرائم خطف عسكريين آخرين وأسرهم وقتل عدد منهم بعد الأسر. فأحال حمود الملف إلى مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي صقر صقر الذي كلّف استخبارات الجيش بإجراء التحقيق. لكن ماذا بوسع استخبارات الجيش أن تفعل مجدداً بعدما أنهت تحقيقاتها منذ أشهر؟ ماذا عن عشرات المتّهمين الذين أوقفوا في هذا الملف ويحاكمون اليوم أمام المحكمة العسكرية؟ لقد أغفل الوزير المحامي أنّ هناك تحقيقاً آخر في القضية نفسها انطلق منذ ثلاث سنوات يُحاكم فيه أكثر من مئة مدّعى عليه بالجرائم المطلوب التحقيق فيها؟ التحقيق الذي أجراه القضاء العسكري تمكّن من تحديد معظم المتورطين في اقتحام عرسال واحتلالها ومهاجمة مراكز الجيش وحواجزه لقتل عسكريين واختطاف آخرين. في الطلب الموجّه من وزير العدل إلى النائب العام التمييزي إشارة تأكيدية إلى أن يشمل التحقيق «جميع الجرائم المتفرّعة وجميع الأشخاص الذين شاركوا أو تدخّلوا أو حرّضوا على ارتكابها، بأي صفة كانت، مدنية أو عسكرية، وبأي شكل من الأشكال». فهل يعني ذلك أن التحقيق المزعوم سيستدعى إليه رئيس حكومة سابق أو وزير أو نائب أو قائد جيش سابق؟ هل لدى صقر صقر القدرة على استجواب هؤلاء أو حتى استدعائهم؟
خلاصة الأمر أن التحقيق مفتوح، ورفع مستواه ليشمل سياسيين، بحاجة إلى قرار سياسي كبير، لا إلى إحالة على مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية، الذي أحال الطلب على استخبارات الجيش التي تبدو غير عارفة بما عليها فعله: هل تكرر التحقيقات نفسها أم تكتفي بما أنجزته؟ طلب وزير العدل لن يوصل إلى أيّ مسار تحقيقي جديد. أقصى ما يمكن تحقيقه هو محاكمة «أبو طاقية» و«أبو عجينة».