مهرجان الشباب والطلّاب العالمي، لمن لا يعرفه، هو أكبر حدث شبابي دولي يحمل هويةً سياسيّةً واضحةً تعرّف عن نفسها بأنّها «مناهضة للإمبرياليّة» على مرّ العقود الماضية. ذاك التعبير الخشبي لم يفارق المهرجان، رغم أنّ كثيرين ممّن ينتظرون اليوم «فنعةً» كي يخرجوا إلى الضوء، فارقوه حتماً.
كثيرةٌ هي المهرجانات الدولية، لكنّ واحداً منها فقط يجمع ما يزيد على 10 آلاف شاب وشابة من قوى اليسار المناضل والفاعل في بلاده، والمتعطّش إلى مفاهيم التحرر والاستقلال والعدالة والمساواة. يجتمعون لينقلوا تجاربهم، فنتعلّم منهم قضايا شعوبهم تماماً كما تعرّفنا في بدايات وعينا السياسي إلى قضية الصحراء الغربيّة أو كما تفاعلنا مع شعوب أميركا اللاتينية فرأينا ثورتهم البوليفارية من داخلها، بعظمتها وأخطائها، أو كما عرفنا الكوبيين المخلصين للقضية حتى الرمق الأخير. تعلّمنا وتأدلجنا، وعلّمنا أيضاً. نقلنا للعام كلّه قضية فلسطين التي لا تصل إلى شعوب «الغرب» إلّا من خلال مصفاة الإعلام الرأسمالي. فحملوها معنا وناضلوا فيها وصار المئات منهم منتمين كانتمائنا إليها. لا نبالغ إن قلنا إن هذا المهرجان تحديداً شكّل دوماً أكبر منصّة حشد وتأييد ودعمٍ لهذه القضية وأوصل صوتها إلى كل أصقاع الأرض من خلال الشباب الناشط على الأرض في بلدانه.
نقول كلّ هذا كي نوضح أنّ المهرجان رسالةٌ ووسيلةٌ حافظنا عليها وقاتلنا من أجل استمراريّتها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وبعد توقفه عن الانعقاد لدورتين إثر ذاك الزلزال المدوّي. لكنّ حزبنا واتّحادنا عملا مع المئات من القوى اليسارية على إعادته إلى الحياة من جديد، وأصررنا، بعكس التيّار، حتّى انعقد عام 1997 في كوبا المقدامة رغم الحصار والصعاب. واستمرّ بعد ذلك، فانتقل إلى الجزائر 2001 وفنزويلا 2005 وجنوب أفريقيا 2010 والإكوادور 2013، وصولاً إلى روسيا 2017. واجه المهرجان بعد المنظومة الاشتراكيّة صعوبات جمّةً، وصراعات بين الجهة الأساسيّة المنظّمة له، اتحاد الشباب الديموقراطي العالمي، وبين كل دولةٍ مضيفةٍ، بعد كوبا، بلا استثناء. إذ لكلّ نظام أجندته، ولنا أجندتنا المستقلّة أيضاً. تصارعنا، وكنّا في كل مرحلةٍ ننجح في تأمين نجاح المهرجان بمضمونه السياسيّ ونتخطّى مشكلاته وهفواته بالقليل من الخسائر، وتمكّنّا من إشراك أكثر من 50 ألف مشارك على مدى هذه السنوات كي تستمر الرسالة والقضية وكي يبقى للشباب اليساري ساحات نضاله وميدان أفكاره، وكي تصل كلّ تلك القضايا إلى كلّ العالم. لم أكن سوى مشارك مرةً واحدةً فيه ومنظّماً مرةً أخرى، لكن مهرجانين كانا كافيين لانتمائي إلى هذه الحركة النضالية، مدافعاً عنها ومساهماً في حراسة خطّها بعدما رأيت كيف تنتشر الشعلة من رفيق إلى آخر، وكيف تنتقل جذوة النضال من شعب إلى آخر فتصنع التجربة مناضلين مخلصين وثابتين حول كل العالم.
وليس بعيداً عن هذا المناخ، أتى مهرجان روسيا 2017، بما يحمله من أزمات ومشاكل. إذ شكّلت المنظمات الشبابية الروسية لجنة وطنية قبل عامين وتقدمت، بشكل جماعي لطلب استضافة المهرجان، وضمت اللجنة منظمات الأحزاب الروسية الكبيرة؛ من حزب السلطة وصولاً إلى الحزب الشيوعي الروسي. وفي حين شكّلت هذه الخطوة انقساماً في الرأي داخل جسم اتحاد الشباب الديموقراطي العالمي، فإنّها شكّلت أيضاً خطوةً مفاجئة من دولةٍ ابتعدت كثيراً عن روح المهرجان منذ زمنٍ ليس بقليل.
كثرت النقاشات، وكان للبعض رأي برفض هذا الطلب، فيما رحّب البعض الآخر. وأمام الحاجة للوصول إلى رأي جامع وإلى عقد المهرجان في موعده، استقرّ الرأي داخل المنظمة الدولية على قبول استضافة المهرجان في روسيا، شرط تزامنه مع الذكرى المئوية للثورة البلشفية، وتبنّيه شعاراتها، والشعار التاريخي للمهرجان في مناهضة الإمبريالية. فإن أحبّ المضيف ذلك كان به، وإن لم يرغب فذاك لا يؤمن شروط عقد المهرجان بهويته السياسية المعروفة. المضيف وافق على كلّ ما طرح، وبدأت مسيرة التحضير الطويلة المضنية للمهرجان. لجان تحضيرية ولجان مشتركة... ولجان عاملةٌ لحسابها.
وفي حمأة السنة الأخيرة، لا بدّ من القول إن الاختلاف في الرأي كان السمة الأساس عند كلّ خطوة. لكنّ القضية الأبرز كانت رغبة المضيف بدعوة قوىً من خارج الإطار العام الذي يدعى إلى المهرجان، بما فيها أحزاب وجمعيات ذات هوية يمينية من أوروبا الغربية والشرقية، وقوى صهيونية على علاقة طيبة مع روسيا وغيرها. وقد أخذ الموضوع مدّاً وجزراً، لكنّ الاحتكام كان للعمل الهيئوي، فانعقدت اللجنة التحضيرية الدولية التابعة لاتحاد الشباب العالمي، المسؤولة الوحيدة عن أعمال المهرجان وبرنامجه وطرح الموضوع على التصويت، فاتُّخذ قرار حاسم بعدم دعوة كلّ هذه القوى، وصدر بيان إعلامي حول الموضوع تولى اتحاد الشباب الديموقراطي العالمي نشره، وكان ذلك قبيل انطلاق أعمال المهرجان بثلاثة أيام.
لم يطب الأمر للجهة المضيفة، التي قامت خلال هذه الفترة أيضاً بإضعاف صوت الشيوعيين الروس وحضورهم داخل لجانها، فباتت صدىً واضحاً لحزب روسيا الموحّدة وحده. عملت اللجنة الروسية، بعدما فقدت الأمل بتغيير مضمون المهرجان، على تخطّيه والالتفاف عليه. تركت للمهرجان ساحته ومكانه واستقلاليته، وأقامت إلى جانبه وعلى مسافة كيلومترات قليلة، مهرجانات موازية، وصروحاً كبيرة، ومسارح واسعة حتّى بات المهرجان الحقيقي تفصيلاً صغيراً أمام مهرجانات الشبيبة الروسية، وصار المهرجان مهرجانات. مهرجاننا كما نريده، ودون اهتمام رسمي، ومهرجاناتهم كما يريدونها مع كل الدعم.
في هذا اليوم، وقبل بدء المهرجان، كان بعض من ممثلي اتحاد الشباب الديموقراطي العالمي المقيمين في سوتشي لإتمام التحضيرات تساورهم الشكوك، ولم يثقوا بالنيات وكانوا يتهيّبون التفافاً على القرار. ومنهم كانت رفيقتنا لينا بعلبكي التي رأت خلال تجوّلها في باحات المهرجان وتحديداً قرب المركز الإعلامي تحضيرات وأعمالاً، وشاهدت من بين ما شاهدته علماً إسرائيلياً، فانتظرت بهدوء ورويّةٍ حتّى تفرّق الموجودون، ثم توجهت إلى المكان وأزالت العلم، تماماً كما يجب أن يفعل كل رافض لهذا الكيان الغاصب، وعادت لتخبر المعنيين بأنّ هناك مخالفة غير مقبولة للقرار المتفق عليه.
لم تمرّ الحادثة على عين الأمن الساهرة، فلاحقوا لينا وأمسكوها وحققوا معها لستّ ساعات طويلة، قبل أن يخلوا سبيلها بعدما نشروا جواً من الخوف أنها قد تسجن بالتهم الموجّهة إليها. التهم لم تكن سهلةً: تعكير العلاقات الدبلوماسية بين روسيا ودولة صديقة، ومعاداة الساميّة!
الوفود المشاركة كانت قد بدأت في هذا اليوم بحزم حقائبها إلى سوتشي، وكان الكيل قد طفح هناك. اجتماعات متتالية للجان التحضيرية واتصالات ليلية ونهارية بقياداتها، خلصت إلى نتيجة واحدة: لا مشاركة في أي حدث يدعى إليه وفد العدو، ولا مساومة على رفع العلم في أيّ من نشاطاته. وقد أبلغت اللجنة الروسية بذلك.
ترقّب وحذر على مدى 48 ساعة لمآل الأمور. حدثٌ مسيءٌ آخر: جاء وفد من السويد، وكان اثنان من أعضائه يضعان شعار «قاطِعوا إسرائيل» بالإنكليزية، فاقتربت منهما القوى الأمنية وطلبت منهما نزع الشعارات المعادية للسامية فرفضا، وكان أن اقتيدا إلى تحقيق لمدة ساعتين بالتهمة نفسها قبل إطلاق سراحهما.
إصرار لبناني وعربي، مع استثناءات بسيطة من وفود فضّلت حفظ ماء الوجه مع الحليف الروسي على حفظ الكرامة والأمانة مع فلسطين، وشيوعيّ عالمي على الدفاع عن هوية المهرجان وخطه السياسي وسط محاولات إغراقه بشعارات الاعتدال والحب والرياضة والثقافة. بحثنا، وقررنا خوض المعركة، دفاعاً عن هوية المهرجان وتاريخه ومستقبله، ودفاعاً عن القضية، ومن أجل قلب المهرجان منصةً للقضية الفلسطينية وحدها لا شريك لها في هذه الأجواء.
مع اقتراب موعد الافتتاح، تبيّن للجميع أن المهرجان صار فعلاً مهرجانين. اللجنة الروسية تفعل ما تشاء في أنشطتها وافتتاحها وبرنامجها وضيوفها، مع برنامج فضفاض بعيد عن السياسة ويرتكز على الفنون والثقافة والمسابقات والترفيه، ومع دعوات إلى الافتتاح الذي تضمن دعوات رسميّة لوفود حكومية، بينها وفود إسرائيلية. اتخّذنا قرارنا سريعاً: نقاطع الافتتاح وكل ما له علاقة بالأنشطة المستقلة غير المتّفق عليها، وكل الساحات الخارجة عن مهرجاننا ونشاطاته وبرنامجه المناهض للإمبريالية والصهيونية، وهكذا كان.
اعتصامات يومية من أجل فلسطين بمشاركة المئات من العرب والأجانب وبأعلام المقاومة اللبنانية وشعاراتها، وبعلم فلسطين. وهكذا كان. رُفع العلم الفلسطيني بقرار من اللجنة الروسية بعد يومين من انطلاق المهرجان تحت ضغط الشباب والشابات، فرفرف عالياً غالياً كما يجب أن يكون. وتمّت ملاحقة أيّ وفد مشبوه قد يكون إسرائيليّاً، حيث تصدّى الرفاق في اليوم الرابع لمحاولة دخولٍ إلى ساحة المهرجان، فقابلوها بالهتاف وجهاً لوجه، وتدافعاً ثابتاً نحو مدخل الساحة، فكان خروج للمتسلّل، من دون عودة، بعدما انتزع رفاقنا منه علمه المقيت. كلّ ذلك كان موثّقاً على العدسات ونقل جزءٌ منه على الشاشات ووسائل التواصل.
البرنامج السياسي للمهرجان معمّق يغطي قضايا الشعوب المشاركة. وتم استغلال كل هذه الحالة الصراعية ليرى العالم ما هي قضيتنا وكيف يجري طمسها وتهميشها، فتحوّلت القضية الفلسطينية إلى محور المهرجان الأساسي بعدما كانت واحدة من قضاياه العديدة. صار كل النقاش في المهرجان وخارجه، في الأحاديث وفي وسائل التواصل الاجتماعي، كيف نحمي المهرجان وكيف نحشد كل الدعم والتأييد للقضية الفلسطينية، وكيف نحول دون دخول ذاك العدو إلى مهرجاننا من بوابة المضيف أو أي بوابة أخرى. ولا بد من القول إن 120 شاباً وشابةً لبنانيين ومئات العرب وآلاف الشيوعيين نجحوا فعلاً في صيانة هوية اتحاد الشباب الديموقراطي العالمي، وهويّة المهرجان وبرنامجه وفرضوا رؤيتهم على مساره، رغم خسارتهم دعم المضيف ورغم تفريخ مهرجانات موازية على هوامشه. إنّ كل الهوامش زائلة، وليست إلّا مخارج لعدم القدرة على ليّ يد الشيوعيين وإرادتهم وفرض تغيير وجهتهم عليهم بالقوّة والمواربة.
فليستمر المهرجان مهرجاناً لدعم فلسطين إعلامياً وسياسياً وتشبيكاً مع شباب العالم الثائر، ولتستمر أبوابه مغلقةً بوجه الفاشيين والصهاينة، وليكن ما سيكون.