نجح المحامي أنطوان طوبيا في تسجيل سابقة، ستدخل أرشيف القضاء، بامتناعه عن حضور جلسات محاكمة موكّله إلا بشرط اعتذار وزير العدل سليم جريصاتي وتعهّده عدم التدخّل في القضيّة (مجدّداً). نجح في ذلك، كموقف مبدئي، إذ اعتكف عن حضور خمس جلسات متتالية، إلا أنّ الوزير لم يلبِ طلبه.
لم يعتذر، ولم يتعهّد ألا يُكرّر فِعلتَه غير المسبوقة في علانيّتها، باتصاله بقاضي المحكمة والضغط عليه على طريقة «بدّي منّك». ظلّت القضيّة، بعد موقف المحامي، معلّقة مِن حزيران الماضي. الوزير رفض، أصلاً، أن يعتبر نفسه متدخّلاً في القضيّة. على العكس تماماً، عدّ ما فعله، وهو المنقول بالصوت والصورة، خطوة إيجابيّة مِن أجل «مصلحة القضاء». خلال الأشهر الماضيّة، في مرحلة الاعتكاف، رفعت المحكمة طلباً إلى نقابة المحامين لإيجاد حلّ لتغيّب طوبيا عن الجلسات. لم ينفع ذلك. رفعت المحكمة طلباً آخر، مع ضغوط أخرى عبر مجلس القضاء الأعلى، إلى أن تمنت النقابة أخيراً على المحامي العودة لتقديم مرافعته. أكثر الأوساط القضائيّة كانت تقرّ، في السر وفي العلن، حقّ المحامي في الاعتراض لأن المسألة تتعلّق بكرامته الشخصيّة، فضلاً عن خرق فاضح، موثّق، لبديهيّات العمل القضائي. امتثل المحامي أخيراً. حضر إلى المحكمة، الأسبوع الماضي، وقدّم مرافعته الأخيرة. ذهبت القضيّة إلى الشهر المُقبل للحكم. في الشكل، الوزير ينتصر. كان متوقّعاً. هذا يحصل في لبنان. يحصل هذا عموماً في «الدول المزيّفة» التي تستورد المفاهيم «المبهبطة عليها»... مثل »استقلاليّة القضاء» وما شاكل.
لا علاقة هنا لأصل القضيّة الموضوعة أمام المحكمة. لا علاقة للمتهم طارق يتيم أو للراحل جورج الريف، لحادثة الصيفي وكلّ ما دار حولها. ما فعله الوزير كان بمثابة قضيّة تفرّعت عن القضيّة الأصل. أصبحت قضيّة قائمة بذاتها. قد تكون الثقافة القضائيّة غائبة عن أكثر الناس، وليس هذا في لبنان فقط، إنّما الوزير نفسه، وسائر القضاة، يَعلمون أي استهجان يُمكن أن تلقاه فعلة الوزير لو عُرِضت على قاض فرنسي، مثلاً. هناك، وفي دول أخرى، تكون استقالة الوزراء أحياناً لأسباب أقلّ تدخّلاً، بل لأسباب تُعدّ عادة سخيفة في بلادنا. عموماً، أصبحت القضيّة الآن في عهدة هيئة محكمة جديدة في جنايات بيروت، بعدما شُكّل القاضي السابق، الذي كان يتابع القضيّة مرحليّاً، إلى موقع آخر ضمن التشكيلات الأخيرة.
ربّما صادف هذه المرّة أنّ موكّل المحامي، المتّهم، ليس محبوباً مِن قبل «الرأي العام». هو صاحب الجرم هنا. لكن غداً، أو بعد غد، عندما سيحصل تدّخل سياسي في عمل القضاء، لمصلحة مَن سيكون محبوباً مِن قبل «الرأي العام» نفسه، فإنّه لن يكون مسموحاً للأبواق التي سكتت على فعلة الوزير أن تخرج لتتفجّع على «استقلاليّة القضاء»... تحت طائلة التذكير. هذا كلّ ما في الأمر. هذا ما تنفع له فعلة جريصاتي كمحطة أرشيفيّة، للذاكرة، يُعاد إليها في كلّ مرّة يخرج فيها مَن يُتاجر بـ«المبادئ». يُمكن أن يستفاد مِنها، أيضاً، كمادة للأمثال الشعبيّة، كأن يُقال: «كما فعل جريصاتي»... وقد ذهبت مثلاً.