عسكريٌّ ببزّة مرقطة يصرخ في وجه سائقي السيارات، كأنّ مسّاً من الجنون أصابه. والسائقون يجهدون خوفاً للابتعاد من طريقه إفساحاً في المجال كي يمرّ. «زمّور» الخطر بدوره لا يهدأ. دويّه يملأ الشارع بنحو استفزازي. سائق سيارة الفورد التي تحمل الرقم 143502 z يُمعن في إرهاب المارة. تتبعه سيارتان تطنطنان بالزمور نفسه، ليَفتَح لها الطريق نحو عدلية بيروت.
هناك يجتمع الرؤساء الثلاثة، ومعهم غالبية رجال الدولة، مع قضاة لبنان احتفالاً بافتتاح السنة القضائية. العناصر الأمنيون والعسكريون ينتشرون في كل مكان، فيما يتكرر مرور المواكب هذه بالطريقة نفسها. كأنّ راكبي السيارات السوداء ليسوا رجال دولة، بل أفراد عصابات خارجون من أحد أفلام هوليوود. يجري ذلك على إيقاع كلمات الخطباء الذين يرددون: «باسم الشعب تبنى الدولة».
رغم أنّ «التفشيخ» كان طاغياً، إلا أن كثيراً من القضاة دخلوا باحة القصر بهدوء ومن دون ضوضاء. التفتيش كان استثنائياً.
في الداخل، يتكرر المشهد بنسخة أكثر عصرية في باحة الخطى الضائعة في قصر العدل. رجال الأمن يتنقلون بأسلحة ظاهرة. رشاشات المرافقين محمولة بوضعية التأهّب والمسدسات مسنودة على الخصر. ممنوع على أيٍّ كان التصوير، إلا لمن يحالفه الحظ. ورغم ذلك، لم يمنع الانتشار الأمني الكثيف القضاة المشرفين على الاحتفال من القيام بواجبهم على أكمل وجه، إذ كان التنظيم استثنائياً هذا العام. شاشة ضخمة مثبّتة أمام أكثر من ٥٠٠ قاضٍ اجتمعوا لاستقبال «القاضي الأول» رئيس الجمهورية ميشال عون. عريفة الحفل كانت القاضية رلى جدايل، الرئيسة الأولى في محافظة الجنوب التي برعت بصوت إذاعي. ومع دخول رئيس الجمهورية القاعة، أزاح الستار عن نصب شهداء القضاء المؤلف من كلمات: «الغدر بالقضاء خيانة ودمهم للعدل قيامة». وتعاقب على إلقاء الكلمات نقيب المحامين في بيروت أنطونيو الهاشم، وزير العدل سليم جريصاتي، رئيس مجلس القضاء الأعلى جان فهد ورئيس الجمهورية. ووسط هؤلاء، خرج نزار فرنسيس بأغنية: «هيك العدل بدّو».

أرهبت مواكب السياسيين والقضاة المواطنين بصراخ وسلاح وشتائم


بين الكلمات، برزت كلمة الرئيس عون. استهل رئيس الجمهورية خطابه بإعلان يوم ٨ حزيران، تاريخ استشهاد القضاة الأربعة في صيدا، يوماً رسمياً لشهداء قضاء لبنان. استعاد بعدها واقعة رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل خلال الحرب العالمية الثانية، حين اعتبر أن بريطانيا تبقى بخير، رغم الحرب، ما دام قضاؤها بخير. وانطلق عون من هذا الحادثة ليعرج على ما سماها «شائعات طاولت القضاء في مختلف مواقعه، متهمة إياه بالفساد وعدم الفعالية، وبالتبعية للسلطات السياسية التي ألغت استقلاليته وفرضت على قسم من القضاة ضغوطاً جعلتهم ينحرفون عن السلوك القويم، ويبتعدون عن الأداء الصحيح، وينسون أن عليهم إحقاق الحق في المقاضاة بين الناس». قال عون إن «العدالة المتأخرة ليست عدالة»، معطياً مثال «قضية عمرها سنتان موثقة بالصوت والصور لا تزال نائمة في أدراج المحكمة لم يصدر فيها حكم بعد»، قاصداً ربما، جريمة قتل جورج الريف. وأضاف عون: «عندما تتكاثر الشائعات وتتكرر، تصبح يقيناً في ذهن الناس، وتشمل الصالح والطالح معاً، وتقتل الحس النقدي عند الشعب، فيحكم على الجميع بالفساد. وهذا أسوأ ما يصاب به مجتمع، لأنه يؤدي إلى فقدان الثقة بين المؤسسات والشعب». تحدث عون عن تأخير البت بالملفات، وعن ضرورة محاسبة القاضي لذاته على أدائه لإبعاد الشبهة والشكوك، داعياً القضاة إلى العمل للابتعاد عمّا يسيء إلى سمعتهم، معتبراً أنه «أصبح لزاماً علينا أن نعيد النظر في النظام الذي يرعى مؤسساتنا القضائية، من خلال مقاربة جديدة تأخذ في الاعتبار الشوائب والنواقص والثغرات في قلب النظام القضائي». وقال عون: «قد نذهب بالتغيير إلى جعل القضاء سلطة منتخبة فتصبح حكماً سلطة مستقلة مع استقلال إداري، وهكذا نفصل فعلياً بين السلطات مع وضع التشريعات اللازمة لخلق التوازن في ما بينها».
كلمة عون كانت الأكثر واقعية بين الخطباء. وضع الرجل أصبعه على كثير من المسائل التي تقال في السر والعلن. أما الرئيس جان فهد، فقد تحدث عن الإنجازات التي حققها الصرح القضائي خلال السنوات الماضية. وتحدث عن خطة خمسية وضعت عام ٢٠١٣ للنهوض بالعمل القضائي، قوامها أضلع ثلاثة، هي: تحديث وسائل العمل القضائي، والارتقاء بمستواه، والتعامل مع التحديات بجدية ومسؤولية. وذكر فهد إحصائيات بشأن الإنتاجية التي حققها القضاة في السنة الأخيرة، كاشفاً أن الوارد من قضايا مدنية وجزائية عام 2016 - 2017 بلغ 152234 مئة واثنين وخمسين ألفاً ومئتين وأربعاً وثلاثين قضية، بينما بلغ المفصول 150157 مئة وخمسين ألفاً ومئة وسبعاً وخمسين قضية، هذا عدا عما نظرته النيابات العامة. وأضاف فهد: «إذا صح الحديث أحياناً عن عدالة متأخرة، فمن المجحف الحديث، هنا وهناك، عن عدالة غائبة». أما وزير العدل جريصاتي، فقد استعار من خطاب القسم كلام الرئيس عون عن «إرساء ركائز سلطة القضاة المتحررة من التبعية السياسية»، ليشيد بالمناقلات القضائية التي جرت. جريصاتي الذي يعلم علم اليقين أن أكثر من تسعين في المئة من القضاة اختارت مرجعياتهم السياسية أسماءهم، خاطب القضاة قائلاً: «يا قضاة لبنان، يا جنود العدالة، إن الاستقلالية تستحق ولا تمنح، كما الهيبة والثقة، فبادروا إلى أداء رسالتكم السامية بكل ترفع وتجرد وإباء وحسٍّ عال بالمسؤولية». أما نقيب المحامين الهاشم، الذي ألقى كلمة باسم نقابتَي المحامين، فأكد الوقوف إلى جانب الجسم القضائي ومجلس القضاء الأعلى في كل الجهود التي يبذلها لإرساء استقلال السلطة القضائية».