لم يكن خافياً على اللبنانيين منذ قرابة عام ونصف عام أنّ الرئيس سعد الحريري كان يعاني من أزمة مالية حادّة، منذ أن قرّر محمد بن سلمان ابتلاع شركته «سعودي أوجيه»، ضمن توجّه عام لولي العهد السعودي باحتكار عطاءات المشاريع وتجييرها لمصلحة شركاته والأميركيين والمقرّبين منه. في تركيا، تعثّر آخر للحريري حيث استثمارات شركته «أوجيه تيليكوم» في شركة «تورك تيليكوم» التركية، وتعثّر في قروضه التركية التي من المفترض سدادها هذا الشهر.
إذاً، وضع الشيخ سعد المالي كان بالغ التأزّم، الأمر الذي انعكس على أدائه السياسي حتى إنجاز الصفقة الرئاسية أواخر العام الماضي ووصوله إلى رئاسة الحكومة. أداؤه في السرايا الحكومية من خلال السعي إلى تأمين كل الظروف المطلوبة لتعويض خسائره، انعكس سلاسة في تمرير الاستحقاقات والعمل الحكومي بالتفاهم مع الشركاء الحكوميين، ولا سيما حزب الله. على المقلب الآخر في الرياض، كان محمد بن سلمان يطبخ صفقته مع دونالد ترامب، الذي دخل البيت الأبيض بداية العام وفي جعبته مشروع مخالف لسياسة أوباما التفاوضية مع إيران. السعودية كما كيان العدو الإسرائيلي، في صلب مشروع ترامب الذي تحرّكه أيادي المحافظين الجدد في أروقة البيت الأبيض.
شرح الحريري للأميركيين أن الحرب على حزب الله غير مجدية

التوجّه الصقري السعودي تجاه إيران وحلفائها في المنطقة يحتّم توتير الساحة اللبنانية، تماماً كما في كل ساحة يوجد فيها حليف لطهران. منذ ما قبل قمة سلمان ــ ترامب في الرياض في أيار الفائت، كان الحريري يعرف جيداً أن الرياض تسعى جاهدة لإقناع الأميركيين بالسماح بتفجير الساحة الوحيدة الباقية في المنطقة، التي كان هناك حرص على تحييدها عن سيناريو التفجير والمواجهة. في 11 أيار الماضي تلقّت وزارة العدل الأميركية تصريحاً (وثيقة رقم 1) من النائب الجمهوري السابق وليام بروك عن اتفاق شفهي (دون مقابل مادي) بينه وبين مكتب الرئيس سعد الحريري. ينصّ الاتفاق على «مساعدة مكتب الحريري على إجراء اتصالات مباشرة مع مكتب ترامب وترتيب اجتماع بين الحريري والرئيس الأميركي». يظهر هنا أن الحريري أراد أن يفتح قناة اتصال مباشرة مع مكتب ترامب، مع العلم بأن التعاقد الشفهي هذا جاء بعد 4 أيام على إعلان ترامب أن زيارته الأولى خارج الولايات المتحدة ستكون للسعودية. هناك قطبة خفيّة هنا: لماذا لم يطلب الحريري من السعوديين مثلاً أن يساعدوه لترتيب اللقاء مع ترامب؟ أو لماذا لم يقم الحريري كما درجت عادته هو وقيادات تيار المستقبل عند نيتهم زيارة واشنطن للقاء مسؤولين أميركيين، بالطلب من مساعدته للشؤون الأميركية آمال مدللي، العمل على ترتيب اللقاء مع ترامب؟ مدللي (سفيرة لبنان الحالية في الأمم المتحدة منذ أواخر تموز الماضي) المعروفة بنشاطها في مجال جماعات الضغط الأميركية، لم تكن حين طلب الحريري لقاء ترامب مرتبطة إلا بعقد واحد وحصري مع جماعة ضغط اسمها BGR Government Affairs، ويرد في العقد (وثيقة رقم 2) أنها تقدّم خدماتها لـ «مركز الدراسات والشؤون الإعلامية في الديوان الملكي السعودي» مقابل مبلغ 26.500 دولار أميركي شهرياً. لا تفسير منطقياً للخطوة، إلا أن الحريري فضّل تحييد مدللي هذه المرة، لكي لا يتسرّب التوجّه إلى مركز الديوان الملكي الذي يرأسه سعود القحطاني، أحد مساعدي محمد بن سلمان المقرّبين.
بداية تموز الفائت أبلغ الحريري مجلس الوزراء أنه سيتوجّه إلى واشنطن للاجتماع بترامب وبعض أعضاء الكونغرس. كان معلوماً أن الحريري أخذ على عاتقه مخاطبة الرئيس الأميركي وأعضاء الكونغرس لتخفيف صيغة مشاريع قوانين العقوبات على حزب الله التي كان المشرّعون الأميركيون بصدد إقرارها. اجتمع الشيخ سعد مع ترامب في 25 تموز والتقى في اليوم التالي الجمهوريين، رئيس مجلس النواب توم كوتون ورئيس لجنة الشؤون الخارجية في المجلس إد رويس، وردّد تماماً ما قاله لترامب «أنّ من الضروري تحييد لبنان عن أي مواجهة إقليمية مع إيران، وأن الحرب على حزب الله ومحاصرة بيئته غير مجدية، ومن شأن أي استهداف من هذا الشأن أن يفجّر الحكومة والاستقرار». الجدير بالذكر أن الحريري توجه إلى جدة في 20 تموز (أي قبل سفره لواشنطن بيوم) والتقى ولي العهد السعودي، في إشارة إلى أنه ذهب ليطلعه على ما سيناقشه مع الأميركيين. يظهر هنا وكأنّ الحريري التفّ من وراء ظهر محمد بن سلمان بدايةً عبر فتح قناة الاتصال المباشر مع البيت الأبيض، ولاحقاً عبر ترتيب لقاءاته ومضمون ما سيناقشه في واشنطن بمعزل عن الإشراف السعودي المباشر، واكتفى قبل ذهابه للقاء ترامب بيوم أن يقف على خاطر «الإرادة السامية» في السعودية. أصبح الاستنتاج الطبيعي يقول إن الحريري أراد ــــ متخطياً ابن سلمان ــــ أن يخاطب ترامب مباشرةً ويطلب منه تحييد لبنان عن سيناريو المواجهة (وهو ما تريد عكسه الرياض)، وهذا في حد ذاته جريمة في نظر ابن سلمان تستوجب العقاب. عقاب بدا واضحاً أنه موجّه إلى تيار الحريري السياسي وجمهوره بالدرجة الاولى، بأن من غير المسموح لأي شخصية سنّية لبنانية أن تلتفّ على إرادتنا، وأي تحرك استقلالي عن قرارنا مصيره القضاء عليه أياً كان قائد هذا التحرك، ومصيركم في بلدكم نحن نحدّده لكم. والرسالة الثانية التي أراد توجيهها ابن سلمان إلى اللبنانيين كانت لشركاء الحريري في الحكومة، بأن صفقته مع ترامب أكبر من أن تستثني ساحة صغيرة بحجمها الجغرافي كلبنان، وأنّه في المحصّلة حصل على الضوء الأخضر الأميركي الذي أراده للّعب في الساحة اللبنانية.