مضى 12 يوماً على احتجاز المملكة العربية السعودية حريّة رئيس الحكومة سعد الحريري، في أوقح تصرّف لم يُسجّل قبله في التاريخ السياسي، ولا يتناسب مع أي عرف دبلوماسي أو أخلاقي. غير أن السعودية، التي أرادت أن تُدخل لبنان في أزمة سياسية واجتماعية واقتصادية وفتنة داخلية، تحقيقاً لمصالحها ومصالح إسرائيل، لم تنجح في الجولة الأولى من المعركة في تحقيق أي تقدّم.
وبدل ذلك، ظهرت السعودية، بنسختها «الجديدة»، نظاماً يمارس العربدة. ويمكن القول إن ما أرادته السعودية نصراً في الجولة الأولى، انقلب عليها استياءً دولياً وضغوطاً بدأت تتعاظم وقد تصل الى مجلس الأمن الدولي، ونظرة عدائية من غالبية اللبنانيين الذين تدّعي حرصها عليهم، فضلاً عن ضربها تيار المستقبل في الصميم، أقوى حلفائها على الساحة اللبنانية، وبشخص رئيسه، والاكتفاء بجوقة من المطبّلين والمزمّرين، لا يأتون على المملكة إلّا بالمزيد من الهزال.
فلا أحد في بيروت اليوم يملك تفسيراً منطقيّاً لما تفعله السعودية بالحريري، بما يضرّ بالمصلحة السعودية وبالحريري نفسه، ويظهره مكسوراً عاجزاً. وفي حين حاول السعوديون استغلال إطلالته في المقابلة التلفزيونية قبل يومين، للقول للمراجعين الدوليين إنه ليس مختطفاً كما تؤكّد الدولة اللبنانية بكلّ أركانها، ولجمهور تيار المستقبل إنه ليس محتجزاً، أتت المقابلة بمفاعيل عكسية، دولياً ومحلياً، بما دفع العديد من الدول إلى تبنّي الموقف اللبناني بالذهاب نحو المزيد من الضغوط على السعودية، لن تكون مستقبلاً في مصلحتها، وستترك آثاراً بالغة على صورتها المشوّهة أصلاً في العالم.
وبعيداً عن القراءات السياسية للحدث، أكّدت مصادر قريبة من آل الحريري لـ«الأخبار» أن العائلة تلقّت معلومات تجزم بأن الحريري سيعود في غضون 48 ساعة إلى بيروت، ليقدّم استقالته لرئيس الجمهورية ميشال عون، من دون معرفة خطوته اللاحقة، لجهة بقائه في بيروت أو العودة إلى السعودية أو سفره إلى فرنسا. ولم تحصل العائلة على أيّ تطمينات بشأن مصير زوجة الحريري وأبنائه، لجهة بقائهم في السعودية أو عودتهم معه. ولكن العائلة، كبقية المسؤولين اللبنانيين، في حالة حذر، لأن تجربة الأيام الماضية لا تشجّع على حسم مصير رئيس الحكومة المحتجز، قبل وصوله إلى بيروت.

مصادر قريبة من آل الحريري: معلومات عن عودة رئيس الحكومة خلال 48 ساعة ليقدّم استقالته

وفي السياق عينه، يدلّ الموقف الأميركي الذي تبلور في الأيام الماضية على إخفاق سعودي كبير في تحقيق المرجوّ من خطوة «إقالة» الحريري لبنانياً. ومع أن الأميركيين هم الشركاء الأساسيون لولي العهد السعودي محمد بن سلمان في انقلابه الأخير، وصهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مستشاره جاريد كوشنير، أمضى ثلاثة أيام ولياليها «يطبخ» الانقلاب مع ابن سلمان قبل أيام من «مجزرة الأمراء» و«إقالة» الحريري، إلّا أن القلق الأميركي من التهوّر السعودي صار كبيراً، إلى درجة أن وزير الحرب السعودي على لبنان ثامر السبهان تلقّى توبيخاً حاداً من مسؤولين أميركيين خلال زيارته الأخيرة لواشنطن. وقالت مصادر دبلوماسية غربية لـ«الأخبار» إن السبهان سمع التوبيخ القاسي في اجتماعين منفصلين، ومن جهتين مختلفتين في الإدارة الأميركية؛ الاجتماع الأول في وزارة الخارجية بحضور ممثّل عن وكالة الأمن القومي، والثاني في وزارة الدفاع، حيث قال الأميركيون للسبهان إن «التصرّفات السعوديّة حيال لبنان هوجاء»، مضيفين أن «هذه التصرفات تضر بمصالح الولايات المتحدة في لبنان». وقالت مصادر واسعة الاطلاع لـ«الأخبار» إن «الأميركيين الذين باركوا في البداية انقلاب ابن سلمان، عادوا ولمسوا خطورة ما جرى على مصالحهم في لبنان؛ فالموقف الحاسم للدولة اللبنانية ضد التصرف السعودي، والتضامن العارم مع الحريري، وتحوّل خطاب خصومهم وأعدائهم في لبنان (الرئيس ميشال عون والسيد حسن نصرالله) إلى خطاب مقبول على نطاق واسع، والضرر البالغ الذي أصاب الوزن السياسي لشريكهم الاول في لبنان، وإمكان تدحرج الأمور إلى حدّ تعريض الاستقرار للخطر، كلها عوامل دفعت بهم إلى التحرك لوضع حدّ لطيش حليفهم السعودي. وبعد صمت دام خمسة أيام، أصدر الأميركيون (الخارجية، ثم البيت الأبيض) بيانات واضحة تؤيد عودة الحريري بصفته شريكاً موثوقاً لهم. وبعد ذلك، بعثوا لمحمد بن سلمان برسائل عبر السبهان لوضع حدّ للخطوات الفاشلة».
وبالتوازي، بدأ الوزير جبران باسيل أمس جولة أوروبية موفداً من رئيس الجمهورية ميشال عون، بعد أن أجرى اتصالاً هاتفياً في ساعة متأخرة من ليل أول من أمس بالرئيس نبيه برّي، لتنسيق الزيارة. والتقى باسيل خلال الجولة وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغريني، ثمّ رئيس الوزراء الفرنسي إدوارد فيليب، قبل أن يعقد خلوة دامت نصف ساعة مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. وبدا لافتاً أن موقف موغريني لاقى خطاب الرئيس ميشال عون، لجهة تشديدها على وجوب عودة الحريري إلى لبنان، برفقة عائلته! مصادر دبلوماسية أكدت لـ«الأخبار» أن الموقف الدولي من الوضع «الشاذ» للرئيس الحريري «إلى تعاظم»، و«سيتحوّل الى تحرك دولي». ولفتت إلى أن لبنان «تبلّغ من الفرنسيين والألمان أن الموقف الأوروبي واحد من هذه القضية، وهو متناغم الى حدّ كبير مع الموقف الأميركي». ووصفت لقاء باسيل ماكرون بـ«الممتاز... وستكون هناك إجراءات وخطوات عملية»، بدأت بوادرها بالإعلان عن زيارة لوزير الخارجية الفرنسي جان إيف لو دريان للرياض اليوم، للبحث مع ابن سلمان في الوضع اللبناني.
وأشارت المصادر الى أن لبنان «لا يزال، حتى الآن، يضع المشكلة في خانة العلاقات الثنائية مع المملكة، والتي يمكن حلّها أخوياً. ولكن، في حال لم يعد الرئيس الحريري قريباً، فإن الأمور ستخرج من هذا الاطار، وسنذهب إلى التدويل، وستكون عودة رئيس الحكومة حُكمية». وأكّدت أن «لا كلام في أي أمر قبل عودة الحريري، ولا ربط لهذه العودة بالمسائل السياسية. وهذه الأمور تُبحث في بيروت». وشدّدت المصادر على أن التحرك الدبلوماسي الذي يقوده باسيل «منسّق بالكامل مع تيار المستقبل وعائلة الحريري».
وعلمت «الأخبار» أن مستوى المواقف التي عبّرت عنها المستشارة الألمانية انجيلا ميركل خلال اتصالها بعون، كان سقفها أعلى من سقف تصريحات وزير الخارجية الألماني، لجهة دعم موقف لبنان والتأكيد على ضرورة إفراج السعودية عن الحريري.
وفيما لم يظهر أيّ جديد «إيجابي» لناحية وضع الحريري في السعودية، بدا اللقاء القصير الذي لم يتجاوز 14 دقيقة بينه وبين البطريرك الماروني بشارة الراعي، الذي عاد من السعودية مساء أمس، مؤشّراً سيّئاً بالنسبة إلى المراقبين على وضع رئيس الحكومة. وقالت مصادر متابعة إن الحريري لم يلتقِ حتى الآن بالسبهان ولا بوليّ العهد محمد بن سلمان، منذ احتجازه في السعودية، ما يعني، بحسب المصدر، أن السعودية لم تقرّر بعد إعطاءه «لائحة التعليمات» أو خطّة العمل السعودية الجديدة في لبنان، ليتمّ الإفراج عنه بعد ذلك.
ولا تزال مقابلة الحريري والتفاصيل التي ظهرت فيها تشغل بال المتابعين في بيروت، وبالتحديد كلام الحريري عن عائلته، إذ يقول مرجع لبناني إن «الحريري قال حين تحدّث عن عائلته إن مواقفه المستقبلية ستكون مربوطة بورقة الضغط هذه»، خصوصاً أن التواصل مع الحريري صعبٌ للغاية، وهو لم يتكلّم مع بري أو عون منذ أيام طويلة، ويؤكّد الذين يتواصلون معه أنه لا يجيب إلّا بجملٍ محدّدة. وأمس، غرّد الحريري على حسابه على تويتر قائلاً: «يا جماعة أنا بألف خير، وإن شاء الله أنا راجع هل يومين خلينا نروق، وعيلتي قاعدة ببلدها المملكة العربية السعودية، مملكة الخير».