تفاعلت السوق المالية بحذر مع الأنباء المتداولة عن نهاية أزمة استقالة الرئيس سعد الحريري بعد عودته إلى لبنان من الحجز السعودي. إذ رصد مصرفيون وجود طلب من المودعين لشراء الدولار بقيمة 150 مليون دولار مع تقديرات تشير إلى انسحاب 15 مليون دولار إلى خارج لبنان. كذلك تبيّن أن فائدة الإنتربنك، أي الإقراض من يوم ليوم بين المصارف، لا تزال عند مستوى مرتفع جداً، إذ انخفضت صباح أمس إلى 95% ثم عادت ظهراً لتبلغ 100%.
حتى الآن لا تزال أسباب استمرار تحويل الودائع من الليرة إلى الدولار غير واضحة. فهناك رأي يشير إلى أنه بسبب عدم وجود استحقاقات للودائع لدى قسم كبير من المصارف لم يسجّل طلب كبير على الدولار مثل أيام الاستحقاقات حين كان يزيد الطلب على 300 مليون دولار، وبالتالي يجب الانتظار بضعة أيام إضافية لجلاء حقيقة هذا الوضع. وفي المقابل، هناك رأي ثانٍ يشير إلى أنّ المودعين حجزوا طلبات شراء الدولار لدى المصارف قبل أيام من عودة الحريري وبدء انفراج الأزمة، وأنه لا يمكن تفسير الطلب الحاصل أمس في السوق المالية على أنه طلب فوري يعكس حقيقة التطورات الأخيرة في اليومين الماضيين.
أياً تكن الأسباب، فإن القراءة السياسية للمودعين ورجال الأعمال ليست واحدة أيضاً. فهناك من يرى أن تقلبات مواقف الحريري تحت الضغوط المختلفة، سواء تلك المتعلقة باحتجازه في السعودية أو تلك التي بدأت مع تسوية عودته إلى لبنان والتريّث في بتّ استقالته من الحكومة بمظلّة إقليمية بين فرنسا ومصر، تشكّل مصدر قلق ربطاً بإمكان حصول تقلبات إضافية خلال الفترة المقبلة، في ظل عدم وجود اتفاق نهائي وحاسم وعلني على شكل التسوية.

الطلب على الدولار سجل 150 مليون دولار وفائدة الإنتربنك 100%


رغم ضبابية هذا المشهد، إلا أن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، أصرّ أمس على أن مصرف لبنان لم يتدخل بائعاً للدولارات، بل شارياً لها. وقال لـ «رويترز» على هامش المؤتمر المصرفي العربي السنوي: «اليوم الأسواق مختلفة»، مشيراً إلى أن الوضع عاد إلى ما كان عليه، وأن كلفة دعم تثبيت الليرة ستبدأ في التناقص الآن، إذ لفت إلى أن «اليوم السوق عكست وضعها، فنحن نشتري دولارات». وفي كلمته في المؤتمر أوضح سلامة «أنّ الكتلة النقدية التي ينشر تفاصيلها مصرف لبنان أسبوعيا تدلّ بوضوح على محدودية التأثيرات التي تعرّضت لها الأسواق النقدية في لبنان بسبب الأزمة السياسية. نحن نؤكد استمرار الاستقرار، وبالأخص بعد عودة الأسواق إلى نمط هادئ».
ويرى عدد من المصرفيين أن تصريح سلامة جاء في إطار «تهدئة» الأسواق رغم كل الإجراءات المتخذة للحدّ من الطلب على الدولار، لكنهم تساءلوا عن أسباب استمرار ارتفاع أسعار فائدة الإنتربنك إلى 100%؟ فهذه الفائدة تعد مؤشراً على حاجة المصارف للسيولة اليومية، وهي ارتفعت منذ بدء الأزمة بسبب الطلب على الدولار لا لأي حاجات أخرى، وبالتالي إن استمرار هذا المستوى من فائدة الإنتربنك دليل قاطع على وجود طلب على الدولار. «هل المصارف سعيدة بأنها تدفع لمصارف أخرى فائدة 100%، فيما هناك مصرف واحد حقق أرباحاً بقيمة 900 ألف دولار من عمليات تسليف لمصرف واحد مصنّف «ألفا»؟ أليست هذه المصارف مجبرة على الاستدانة لتلبية طلبات المودعين بتحويل أموالهم إلى الدولار؟ لو أن الأمر لا يتعلق بأموال المودعين، لما دفعت المصارف هذه الكلفة».
ومن المؤشرات الأساسية التي يجب لحظها، أن اسعار الفائدة على الودائع بالليرة لا تزال مرتفعة. فلو انحسرت الأزمة نهائياً لما كانت أسعار الفائدة اليوم أعلى من 10%. وبحسب مصادر مطلعة، تواجه المصارف اليوم تمييزاً بين مستويات مختلفة من الفوائد في محافظها. هذا الأمر يمكن أن نجده في فرع مصرفي واحد، حيث هناك سعر الفائدة الرائج قبل الأزمة، وسعر الفائدة بعد الأزمة، التي أعلن مصرف لبنان أنها سيدعمها. «لذا، إن الزبائن الذين يناقشون المصرف ويهدّدون بنقل الوديعة منه إلى مصرف آخر، يحصلون على فائدة أعلى، أما صغار الزبائن الذين لا تأثير كبير لهم في محفظة المصرف، فهم يحصلون على أقل سعر للفائدة. ببساطة، هناك فلتان في السوق بعد سماح مصرف لبنان للمصارف برفع أسعار الفوائد ثم شرعنة هذه الخطوة ودعم الفائدة بنسبة مئوية محدّدة. أصلاً، لم تكن المصارف لتقوم برفع أسعار الفائدة من دون إشارة من سلامة» تقول المصادر. وتضيف: إن «مصرف لبنان يرفع أسعار الفوائد بمعزل عن الأزمة السياسية، وهو ما سيرتب أعباءً كبيرة على الاقتصاد».




الهيئات في ضيافة «الوفاء للمقاومة»؟


المشهد لدى الهيئات الاقتصادية أكثر وضوحاً مما هو عليه في السوق المالية «حيث رأس المال جبان». الهيئات ستعمل خلال الأيام المقبلة على استكمال الجولة التي بدأتها بلقاء رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري، لكن جدول أعمال اللقاءات المقبلة سيتغيّر تبعاً للتطورات الإيجابية، ولن يعود الحديث عن أزمة استقالة الحريري، بل عن كيفية تنشيط الأسواق خلال الفترة المقبلة. وبحسب المعلومات المتداولة، سيكون للهيئات لقاء مع رئيس الحكومة سعد الحريري، وأنه في ظل مضمون بيان كتلة الوفاء للمقاومة، قد يكون لديها لقاء مع رئيس الكتلة محمد رعد، فضلاً عن لقاء مع وزير الخارجية جبران باسيل ولقاءات أخرى.
رئيس غرفة التجارة والصناعة والزراعة في بيروت وجبل لبنان محمد شقير، يعتقد أن هناك انفراجاً في تداعيات الأزمة على الصعيد المالي، لكن «من المبكر القول إن التداعيات الاقتصادية ستشهد انفراجاً رغم الأجواء السياسية الإيجابية التي رأيناها، ولا سيما في بيان كتلة الوفاء للمقاومة». ويشير إلى أن الحركة الاقتصادية كانت معدومة أيام الأزمة، ولا نعرف كيف ستتفاعل الأسواق مع التطورات الأخيرة، وخصوصاً أن شهر كانون الأول يمثّل نحو 30% من مبيعات السنة، وبالتالي فإننا سنعمل على درس كيفية تحريك السوق من خلال حملة إعلانية.
ويلفت شقير إلى أنه «لا بد من الاعتراف اليوم بأن هناك بنية اقتصادية لا يمكن الهروب منها، إذ إن اقتصادنا مرتبط بدول الخليج من ثلاث زوايا: التصدير، الاستثمارات، التحويلات. لذا، إن الحديث عن أسواق جديدة هي شعارات، فقد حاولنا التصدير إلى روسيا ولم نتمكن من تصدير صندوق تفاح أو صندوق بندورة، ونحن نصدّر إلى غير دول الخليج لاستهلاك الجاليات اللبنانية فقط».
في السياق نفسه، يرى رئيس اتحاد رجال الأعمال في المتوسط جاك صراف، أن «الاتفاق الحاصل أنقذ البلاد بمعزل عن طبيعته». ويعزو ما حصل إلى وجود مؤشرات سياسية وأمنية داخلية وخارجية وفّرت الغطاء لهذا الاتفاق «وأعطتنا نوعاً من الاستقرار السياسي وتركت ارتياحاً في أوساط مجتمع الأعمال، وهو ما تُرجم بوضوح في اليوم الأول لعودة الرئيس الحريري نشاطاً في القطاعات السياحية والأسواق التجارية». لذا يعتقد صراف أنه يجب الانصراف اليوم «نحو البحث عن كيفية معالجة أزمات المؤسسات المتعثّرة وإعادة بناء ما تهدّم في السنوات السابقة وما تهدّم في الأسبوعين الماضيين، ويجب أيضاً أن نستمع إلى وزيري الاقتصاد والصناعة».