لا ينبغي الإفراط في الاحتفاء بعودة الدبلوماسية الفرنسية إلى توازن ما في لبنان. على الرغم مما أظهرته أزمة الاستقالة القسرية للرئيس سعد الحريري من الرياض، والدور الذي لعبه الرئيس إيمانويل ماكرون شخصياً في استرداد رئيس الوزراء اللبناني من محتجزيه. إن أحداث الأسبوع السعودي اللبناني الفرنسي الطويل لم تكن ضربة يتيمة، لكن ينبغي تبين إلى أي مدى سيذهب هذا النهج الدبلوماسي الفرنسي الجديد.
في فرنسا، تقليدياً، لا تزن الإنجازات في السياسة الخارجية كثيراً في تحديد اتجاهات الرأي العام وموقفه من رئيس الجمهورية أو الحكومة. لم يستطع دومينيك دوفيلبان، الذي جنّب فرنسا مع جاك شيراك الخوض في دماء العراقيين خلف جورج بوش والولايات المتحدة البناء على إنجازاته الدبلوماسية. لم تدوِّ كلماته التاريخية ضد الحرب الأميركية لدى الديغوليين في باريس، كما دوّت أصداؤها في مجلس الأمن، حتى إنهم فضلوا عليه عام ٢٠٠٧ نيكولا ساركوزي مرشحاً للرئاسة، ومؤيداً من دون شروط للسياسة الأميركية في العراق أولاً، وشريكاً في الحروب التي تلتها ضد العرب في ليبيا وسوريا.
ومع بعض التفاؤل نزعم أنّ هناك فائدة داخلية ما للسياسة الخارجية الفرنسية استجدت مع الرئيس إيمانويل ماكرون. إن أحد وجوه التدخل في أزمة الحريري يعكس وجهة فرنسية عامة لتهدئة جبهات سورية والعراق، والتقارب مع إيران، لتبريد جبهات المنطقة، ولم يعد هناك إمكانية للفصل التام بين الخارج والداخل. إن إنجازاً خارجياً من هذا النوع يرتبط بمكافحة الإرهاب في بؤره العراقية أو السورية العابرة للحدود، بعد أن أصبح هاجساً داخلياً كبيراً. كما يرتبط بإطفاء محركات التهجير واللجوء التي تشكل هي أيضاً عنصر توتير داخلي، يبدأ من الرقة ودير الزور والموصل، وحلب، حتى شواطئ المتوسط، والجزر الإيطالية واليونانية.
ولوضع الأمور في نصابها، قد لا يذهب الرئيس ماكرون أبعد من إعادة التموضع في المنطقة، وهذا ليس بالقليل، ولن يصل إلى القطيعة الكاملة مع السياسة السابقة. وعلى لائحة كوابح التغيير يمكن تسجيل استمرار شبكة العلاقات السعودية، والخليجية، والفرنسية التي تقوم على كتلة صلبة من المصالح الكبيرة في ميادين التسلح والنفط والاستثمارات، بالإضافة إلى ثبات الحاجة الموضوعية إلى نقطة ارتكاز إقليمي مهمة كالسعودية تطل على الخليج في مواجهة إيران. كذلك لا يزال لوبي السلاح الفرنسي قوياً في تحديد جزء من هذه السياسة. أما بوادر التفاؤل بإعادة التموضع، فتستند أولاً إلى ميزان القوى الجديد في المنطقة والذي فرضه محور المقاومة في سوريا والعراق ولبنان. وتستند ثانياً إلى اعتماد الرئيس الحالي بشكل أوسع على فريق من المستشارين ينتمون إلى التيار الديغولي والسيادي في الإليزيه. وهو فريق نجح في تحجيم نفوذ المحافظين الجدد الفرنسيين الذين كانوا يسيطرون على مساحة كبيرة من الـ«كي دورسيه». ويستند ثالثاً إلى إصرار الرئيس ماكرون على تطوير العلاقات مع إيران رغم الاعتراضات السعودية والأميركية.
والأهم أن تحولات الوضع الدولي، وسياسات دونالد ترامب الرعناء تجاه أوروبا، والأزمات الدولية في شبه الجزيرة الكورية، والملف النووي الإيراني، دفعت الدول المحورية في الاتحاد الأوروبي كفرنسا وألمانيا إلى المزيد من التنسيق البيني. كان هذا مغزى البيان الفرنسي الألماني البريطاني المشترك ضد محاولة دونالد ترامب إلغاء الاتفاق النووي الإيراني. تندرج في هذا الإطار أيضاً القناعة بضرورة العمل مع روسيا والصين لحل الأزمات في كوريا الشمالية بمواجهة الرعونة الأميركية، وفي سوريا لإيجاد مخرج سياسي برعاية روسية للحرب المستمرة منذ سبعة أعوام.
استقبل ماكرون ــ من دون تردد ورغم عاصفة الاعتراضات الفرنسية ــ فلاديمير بوتين في قصر فرساي، تعبيراً عن صعود الرؤية الأوروبية التي تسود اليوم. ذلك أن أوروبا تلج عالماً واقعياً لا معسكرات إيديولوجية تتحكم بصراعاته، وليس من محرماته أن تتقاطع قوى دولية مع قوى أخرى، كانت في الخندق المقابل، إذا ما اقتضت المصالح ذلك.