«كان الضباب يغطي البلدة بأكملها. نسعل من دون انقطاع غير قادرين على التنفس. أحياناً كُنّا نستيقظ ونرى الرماد في بصاقنا». هكذا يصف عُثمان، ابن كفر زبد البقاعية، «يومياته» مع حرق النفايات الذي كان يحصل على مقربة من منزله. هذه واحدة من شهادات كثيرين من «جيران» المكبّات العشوائية التي تحرق النفايات دورياً، نقلتها «هيومن رايتس ووتش» في تقريرها المعنون «كأن تتنشّق موتك: المخاطر الصحية لحرق النفايات في لبنان».
التقرير الذي أعدّه الباحث بسام خواجة، وأطلقته المنظمة في مؤتمر صحافي في بيروت أمس، يكشف أن الحكومة المركزية تعطي الأولوية لبيروت وجبل لبنان في جمع النفايات ومعالجتها، «فيما تترك البلديات الأخرى تتدبر أمرها بنفسها، من دون أي دعم مالي أو تقني أو مراقبة»، ما يضطرها الى خيار الحرق كونه «الأرخص».
عام 2014، أنتج لبنان أكثر من مليوني طن من النفايات. وبحسب باحثين في الجامعة الأميركية في لبنان، فإنّ 10% الى 12% فقط من نفايات لبنان لا يمكن تسبيخها. ومع ذلك يُرمى 77% من النفايات في مكبات مكشوفة أو يجري طمرها. وتشير أرقام وزارة البيئة اللبنانية إلى هناك 941 مكبّاً عشوائياً، 617 منها للنفايات المنزلية الصلبة، وتُحرق النفايات في أكثر من 150 منها في الهواء الطلق، بمعدّل مرة واحدة في الأسبوع على الأقلّ.
تقرير «هيومن رايتس ووتش» يلفت إلى أن حرق النفايات في بيروت وجبل لبنان تزايد بعد انهيار نظام إدارة النفايات خلال أزمة النفايات عام 2015. ومنذ اندلاع الأزمة حتى حزيران الماضي، تلقّى الدفاع المدني اللبناني 3612 بلاغ حرق نفايات في بيروت وجبل لبنان و814 بلاغاً في بقية أنحاء البلاد. ووفق الدفاع المدني، أيضاً، ارتفعت نسبة الحرق في الهواء الطلق في جبل لبنان 330% عام 2015 و250% عام 2016.

الحرق يستهدف الفقراء

يشير التقرير إلى أن «الحرق في الهواء الطلق في لبنان يؤثّر على المناطق ذات الدخل المنخفض أكثر من غيرها». ويوضح أنه رغم وجود أكثر من 100 مكب مكشوف في بيروت وجبل لبنان، «وهي المناطق الأكثر ثراء، ويسكنها نحو 50% من السكان»، تحرق النفايات في تسعة مكبات منها فقط، في حين هناك 150 مكبّاً مكشوفاً في بقية المناطق الأخرى حيث يقطن الـ50% من السكان الآخرون يجري حرق النفايات فيها جميعاً! ففي البقاع الغربي وراشيا، حيث 73% من السكان تحت الطبقة الوسطى، كان متوسط الحرائق 89 أسبوعياً. وفي بعلبك ـــ الهرمل، حيث 80% من السكان تحت الطبقة الوسطى، كان متوسط الحرائق 93 أسبوعياً، في مقابل 12 أسبوعياً في جبيل وكسروان حيث 42% من السكان تحت الطبقة الوسطى. ويلفت إلى أن معظم المكبات التي يتم حرق النفايات فيها في الهواء الطلق بانتظام موجودة في أفقر المناطق، في البقاع والنبطية والجنوب، وفي المناطق الريفية.


كما أن الحرق ازداد في المناطق المكتظة منذ اندلاع أزمة النفايات.
ووثّقت «هيومن رايتس ووتش» ثلاث حالات تم حرق النفايات فيها بالقرب من مدارس، إحداها في منطقة الناعمة حيث أفاد معنيون معدي التقرير بأن النفايات كانت تُرمى وتُحرق في الجهة المقابلة من الشارع على مدى 4 أيام خلال تشرين الاول 2016 ما اضطرهم الى اعتماد تدابير طارئة وإرسال الأطفال الى منازلهم.
ويتمثّل الضرر على الفقراء أكثر من غيرهم بكون هؤلاء «أقلّ قدرة على تحمّل تكاليف الرعاية الصحية أو الانتقال الى مناطق سكنية أخرى لتفادي التعرّض للدخان». واستعرض التقرير شهادات أشخاص يقطنون بالقرب من المكبات قالوا إنهم لا يملكون التأمين الصحي لتلقي العلاج الطبي وإنهم يلجأون عادة الى الصيدليات. كما أنهم بطبيعة الحال عاجزون عن تحمّل كلفة الإنتقال إلى أماكن أخرى. وعبّر عدد من الأمهات والآباء عن إحباطهم نتيجة عجزهم عن تنفيذ أوامر الأطباء بتقليص تعرّض أطفالهم لدخان حرق النفايات.

مخاطر الحرق غير المباشرة

150 مكبّاً مكشوفاً خارج بيروت وجبل لبنان يجري حرق النفايات فيها جميعاً



يذكر التقرير دراسات علمية عدة وثّقت مخاطر إنبعاثات حرق النفايات في الهواء الطلق على صحة الإنسان، ومنها التعرّض لجزيئيات دقيقة كالديوكسين، المركّبات العضوية المتطايرة ومركّبات كل من الهيدروكربون العطري المتعدد الحلقات وثنائي الفينيل متعدد الكلور التي ترتبط بأمراض القلب والسرطان وأمراض الجلد والربو وأمراض تنفسية أخرى. ولفت الى أن الاحصاءات تشير الى ارتفاع المشاكل الصحية بين من يسكنون بالقرب من أماكن الحرق المكشوفة، كالانسداد الرئوي المزمن، السعال، التهابات الحلق، الأمراض جلدية والربو. وأكّد كثيرون تزامن إصابتهم ببعض الأمراض مع بدء عمليات الحرق في الأماكن المجاورة لهم، «فيما قال آخرون إن عوارض مرضهم تدنّت بعدما منعت البلديات الحرق أو بعد انتقالهم بعيدا من مناطق الحرق». وبحسب عدد من الأطباء القاطنين في بيروت وضواحيها، فإنّ حالات الأمراض التنفسية تزايدت بشكل ملحوظ في المناطق التي بدأ حرق النفايات فيها بعد اندلاع الأزمة.
وبعيداً عن الأثر البيئي المباشر، تُثير المكبات المكشوفة، بحسب التقرير، أسئلة حول تأثر النظام البيئي بأكمله بما في ذلك سلامة الغذاء والمياه. وتذكر أن كميات الديوكسين الضارة التي ينتجها الحرق يمكن أن تستقرّ في المحاصيل وفي مجاري المياه لتنتهي في الغذاء وتؤثر على الصحة، فضلا عن لحوم الحيوانات التي تأكل المحاصيل المُلوّثة. كما يُثير مسألة تأثير الحرق على نمط حياة السكان الذين يجاورون المكبات. فبعض هؤلاء مثلاً، بات محروماً من إمضاء الوقت على شرفات منازلهم، وبعضهم يعاني بشكل دائم من صعوبات في النوم. فيما آخرون باتت مهمهتم البحث عن سكنٍ بديل.
«يبدأ الحرق عادةً في الليل ويستمرّ حتى الفجر. أركض فورا الى الشرفة لأدخل الملابس ثم أُقفل النوافذ والأبواب. لكن الرائحة والدخان يبقيان. لا يمكننا تشغيل مكيف الهواء، ولا يمكننا النوم، فنبقى مستيقظين حتى الصباح ونشعر أننا نختنق. حتى عندما أكون خارج المنطقة، يبقى الدخان في رئتي». هذه، أيضاً، واحدة من الشهادات التي يعرضها التقرير.




النفايات الطبية والصناعية

يحذّر التقرير من مخاطر تفاقم حرق النفايات في الهواء بسبب امكانية اختلاط النفايات الطبية والصناعية مع النفايات العادية. ويشير، في هذا الصدد، الى أرقام «سويب نت» (الشبكة الإقليمية لتبادل المعلومات حول أفضل ممارسات إدارة النفايات الصلبة) التي تُقدّر بأن لبنان يُنتج سنوياً 25040 طناً من النفايات الطبية، 5040 طناً منها نفايات مُعدية، و3338 طناً نفايات صناعية خطيرة، «وبسبب غياب المراقبة، تختلط النفايات الطبية والخطيرة مع النفايات المنزلية ما يُثير مزيداً من المخاوف حول أثر حرق النفايات على صحة السكان». وتستند المنظمة في طرحها هذه المخاوف الى تقرير أعدّته وزارة البيئة عام 2010 بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي يلفت الى أن 2% فقط من المختبرات الطبية الخاصة و33% من المُستشفيات الخاصة و20% من المستشفيات العامة تعالج نفاياتها! أما البقية فـ «تختلط نفاياتها مع النفايات المنزلية الصلبة ما يُثير المزيد من المخاوف على صحة السكان».








إدارة تعتمد على الطمر والمكبّ

تعتمد إدارة النفايات الصلبة في لبنان، في شكل أساسي، على الطمر، المكبات المكشوفة، والحرق في الهواء الطلق. ويُنتج لبنان 2,04 مليون طن من النفايات المنزلية سنويا، بحسب «سويت نت»، 52% منها نفايات عضوية، فيما يمكن إعادة تدوير 36,5% منها مثل الزجاج والبلاستيك والمعدن والورق. ومع انه يجري جمع 100% من النفايات تقريبا، فإن 8% فقط يُعاد تدويرها، ويُسبّخ 15%. فيما 77% تذهب الى المكبّات المكشوفة أو تُطمر. ومنذ 2005، طمر نحو 410 آلاف طن من النفايات المنزلية سنويا ومعها نفايات طبية وصناعية ونفايات المسالخ. وقدّرت وزارة البيئة، عام 2010، كلفة التدهور البيئي بسبب الطمر والحرق بنحو 10 ملايين دولار سنوياً، وهي كلفة آخذة في الازدياد.





النازحون ينتجون 15% من النفايات

يلفت التقرير الى دراسة أعدتها وزارة البيئة بالتعاون مع البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة عام 2014، خلصت الى أن النازحين السوريين يُنتجون 15% من النفايات التي كان لبنان ينتجها قبل الأزمة في سوريا في 2011. وبحسب «خطة لبنان الاستجابة للأزمة للعام 2017» التي أعدّتها الحكومة اللبنانية والأمم المتحدة، ارتفع الانفاق البلدي على إدارة النفايات 40% منذ بدء الحرب في سوريا. ووفقاً لمفوضية الامم المتحدة، استثمرت منظمات انسانية دولية وبلدان مانحة وهيئات أممية أكثر من مليون دولار في 2016 في مشاريع لتحسين إدارة النفايات في لبنان.





انتهاك لحقوق الإنسان


لبنان دولة عضو في «العهد الدولي الخاص بالحقوق الإقتصادية والاجتماعية والثقافية» ما يتطّلب منه اتخاذ خطوات لتحقيق حق الانسان في التمتع بأعلى مستوى من الصحة الجسمية والعقلية.
ينتهك حرق النفايات قوانين حماية البيئة اللبنانية بموجب المادة 24 من القانون رقم 444/2002. وتنصُّ الأخيرة على أن «على كل شخص طبيعي أو معنوي، عام أو خاص، في معرض ممارسة نشاطه أن يلتزم بعدم انبعاث أو تسرب ملوثات الهواء بما فيها الروائح المزعجة أو الضارة». ويرصد القانون عقوبات للمخالفين. وبعد إنذار المخالف من قبل السلطات المحلية يكون لوزارة البيئة أن تتخذ كل التدابير القانونية الهادفة الى وقف النشاط الملوث للبيئة. ويحظر القانون 64/1988 حول النفايات السامة والملوثات الضارة إنتاج النفايات السامة من دون التخلص السليم منها، ويرصد عقوبات تتراوح من الغرامات الى السجن بين 3 أشهر و3 سنوات.