منذ عشرين سنة، يبقى كل ما يتعلّق بلبنان في الكونغرس الأميركي رهناً بطلب وقرار من اللوبي الإسرائيلي. وكل ما يريده اللوبي الإسرائيلي يدخلُ في نطاق مسؤوليّة ورعاية النائبة المتعصّبة ــ كارهة العرب والمسلمين ــ إليانا روس ــــ ليتنين.عندما ظهر ميشال عون، في مرحلة نفيه، أمام الكونغرس الأميركي، كان بالتنسيق معها، وعندما حصلت ثورة «الأرز (والبلّوط)» اللبنانيّة على رعاية من الكونغرس، كان ذلك بإشراف منها (وبتنسيق مع اللوبي). وقبل أيّام، نظّمت روس ــ ليتنين هذه، حلقةً عن لبنان دعت إليها ثلاثة، بينهم اللبناني بول سالم (زميل مقاعد الدراسة الابتدائيّة). وشهادة سالم تستحق القراءة، لأنها تعطي فكرة عن دور المثقّف العالمثالثي في عاصمة أجنبيّة:
أولاً: مراضاة الرجل الأبيض بالمحاكاة. أي إن المثقف العربي في مراكز الأبحاث في واشنطن لا ينطق إلا بعبارات الرجل (الصهيوني) الأبيض نفسها، ما يجعله في نظر هذا الأخير حكيماً وعليماً. هذا كان مسار فؤاد عجمي، الذي امتاز، على الأقل، بالتعبيرات الإنشائيّة.
أما بول سالم، فيشغل اليوم منصب نائب رئيس «مؤسّسة الشرق الأوسط» التي أسسها في الأربعينيات مستعربون متقاعدون من الإدارات الأميركيّة، لمواجهة دعاية اللوبي الإسرائيلي ومن أجل إحداث نوع من «التوازن» في السياسة الخارجيّة الأميركيّة. لكن دورها تغير، كما حصل مع غالبية مراكز الأبحاث بعد 11 أيلول، خصوصاً بعدما تكاملت سفارات دول الخليج مع دور اللوبي الإسرائيلي. فأصبحت «مؤسّسة الشرق الأوسط» دكّانة أبحاث تابعة للتمويل السعودي والإماراتي (كشفت «إنترسبت» عن تمويل إماراتي جديد بقيمة 20 مليون دولار لم يُعلَن). ولم تعد تكترث لموضوع القضيّة الفلسطينيّة، لأن ذلك لا يعني ممولّيها الجدد.
شهادة بول سالم أمام اللجنة لم تكن إلا تكراراً للمقولات الصهيونيّة عينها التي تصدح يوميّاً في واشنطن، في مراكز الأبحاث والصحف. وهو قدم شهادة تتكامل مع الدعاية السعوديّة. إذ لا يعلم القارئ مِن بول سالم أن سعد الحريري كان مخطوفاً ومعتقلاً من قبل الحكومة السعوديّة. على العكس، تعامل سالم مع الاستقالة على أنها من بنات أفكار الحريري فقط، لأنه ضاق ذرعاً بدور حزب الله التخريبي (على الأقل، شهادة تمارا كوفمان ــــ ويتس، في الجلسة نفسها كانت أصدقَ من سالم، إذ ذكرت ظروف احتجاز الحريري).
لكن سالم يجاهر بدوافع موقفه، فيصف الموقف السعودي من لبنان (أكثر من مرّة) بـ«الشرعي والحقيقي». وحتى التهديدات والابتزازات السعوديّة للبنان، تدخل في عرف سالم في نطاق «الاحتجاج الشرعي». وسرديّة سالم عن الواقع اللبناني تصلح لأفلام الخيال العلمي، لِما تناقض من حقائق معروفة للجميع. فهو يأخذ على أميركا ليس تدخّلَها وحروبَها وغزواتِها وقصفَها في الدول العربيّة والاسلاميّة، بل إحجامَها (المزعوم) وتمنّعَها. لا يزال سالم، على الأرجح، مثل غيره من عناصر مراكز الأبحاث في واشنطن، عاتباً على الحكومة الأميركيّة لعدم ضربها لسوريا (وإيران أيضاً ربّما). مع الإشارة هنا إلى أنه، في 15 أيلول 2013، «بشّر» سالم الشعب اللبناني في حديث مع جريدة «النهار»، وتنبّأ، بأن «قرار الضربة الأكبر لسوريا» قد اتّخذته إدارة أوباما. أي إنه عَلِم بـ«الضربة الكبرى» قبل حدوثها.
أما إشاراته إلى دور حزب الله في اليمن، فهي من الطرائف والنوادِر. إذ يجزم، بحزم، بأن حزب الله «صعّد» من تدخّله في اليمن، وأن الحزب مسؤولٌ عن «تسليم الصواريخ وتجميعها وإطلاقها» من اليمن. لكن كيف يعلم الباحث سالم ذلك؟ وهل الدراسة تتضمّن البحث الحثيث عن مصادر الصواريخ المنطلقة من اليمن وأنواعها، أم أن روس ــ ليتنين أخبرته بذلك؟ وفي سياق روايته، يأخذ سالم تصريحاً يهنئ فيه علي أكبر ولايتي لبنان على الانتصار على الإرهاب، ويجعل منه تهديداً للبنان. ويشير في سرديّته إلى «تهديد» حزب الله لإسرائيل، ويشاطر النظام السعودي قلقه من تهديد الحزب للسعوديّة نفسها من... اليمن. وطبعاً، لا يذكر سالم التهديدات الإسرائيليّة شبه اليوميّة ضد لبنان وسكّانه وحكومته وبناه التحتيّة، فهذا لا يثير قلقه.

يريد سالم من أميركا والسعوديّة «وأصدقاء آخرين للبنان» التنسيق لسنّ عقوبات جديدة ضد حزب الله



يقول سالم إن إيران طوّرت ترسانة حزب الله الصاروخيّة في لبنان «لتهديد إسرائيل». أي إنه لم يرَ تهديداً في الاحتلال الإسرائيلي للبنان ولا في الاجتياحات الإسرائيليّة الكثيرة له، بل أقلقه تهديدُ هذه الصواريخ لإسرائيل. وهو زاد بأن هناك قلقاً سعوديّاً (يصفه دوماً بـ«الشرعي») من صواريخ حزب الله في اليمن لأنها تهدّد السعوديّة. أي إن قلقه الوجودي يتركّز على أي تهديد يطاول دولة الاحتلال الإسرائيلي والنظام السعودي.
يصف سالم الدور الأميركي في لبنان بأنه صديق، ويقرن ذكر الولايات المتحدة بـ«أصدقاء آخرين للبنان». وبالفعل، فإن الحكومة الأميركيّة لم تحد عن صداقتها للبنان على مرّ السنوات، خصوصاً من خلال الغزوات والاحتلالات الإسرائيليّة التي قامت أميركا فيها بالتعبير عن صداقتها للبنان بالصواريخ والقذائف والطائرات الحربيّة. وأشرك سالم لجنة الكونغرس في حنقه من وقاحة حزب الله، وقال لهم: تصوّروا أن حزب الله قام بقتال الجماعات القاعديّة الإرهابيّة فيما كان الحريري يجتمع بالرئيس ترامب، وذكّرهم بأن الحزب «أسقط حكومة الحريري» عام 2011 عندما كان الأخير في زيارة لواشنطن (هل إسقاط الحكومة في أي نظام ديموقراطي عمل منافٍ للديموقراطيّة؟ إلا في لبنان، عندما تكون الحكومة المستهدفة موالية للتحالف الأميركي ــ السعودي ــ الإسرائيلي).
ويزيد سالم في علك الكلام المألوف عن ضرورة دعم الجيش والمؤسّسات الأمنيّة «الذين هزموا داعش». لكنه يأخذ على الجيش أنه لا يقوم بعمله كفاية في مراقبة المطار والمعابر (لا بل يدعو إلى «الضغط» عليه). ولا يكتفي بذلك، بل يطلب أيضاً أن يُعاد تصنيف القرار 1701 ضمن الفصل السابع. هل هذه الدعوة من أجل تشريع غزوة غربيّة ضد جنوب لبنان وأهله؟ ولماذا يظنّ سالم أن الذين أذلّوا العدوّ الإسرائيلي على أرض المعركة في عدوان تمّوز سيعجزون عن إذلال غيرهم؟
كذلك يريد سالم من أميركا والسعوديّة «وأصدقاء آخرين للبنان» (هل إسرائيل من ضمن قائمة الأصدقاء هذه، يا ترى؟) التنسيق لسنّ عقوبات جديدة ضد حزب الله. ويبدي انزعاجه من التردّد الأميركي تجاه إيران. ويقول إنه رغم رضاه عن إطلاق سياسة جديدة لإدارة ترمب تجاه طهران، إلا أن هذه السياسة تفتقر إلى «أسنان». فهل يطالب سالم أميركا بما يتيسّر من الصواريخ والقنابل ضد إيران على نحو عاجل؟ وهل هذا ما عناه بخلوّ السياسة الأميركيّة من الأسنان؟ ولماذا يظنّ اللبناني (من وليد جنبلاط الذي اعترف بذلك في ما بعد، إلى بول سالم) أن الحكومة الأميركيّة تأخذ أوامرَها من معجبين لبنانيّين بها؟
أن يدعو أي مواطن دولة ما دولةً أخرى لتشنّ عقوبات اقتصاديّة أو عسكريّة ضد بلده، يكون ذلك بمثابة خروج عن المواطنة في تلك الدولة. إلا في لبنان حيث يُدخل ذلك في نطاق حريّة التعبير التي باتت تتضمّن حق مناصرة إسرائيل وحق حثّ الدول الأجنبيّة على معاقبة لبنان.




ماذا قال بول سالم؟

من شهادة بول سالم أمام لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس – تشرين الثاني 2017
ـــ سعد الحريري وغيره من القادة اللبنانيين المتشابهين في طريقة التفكير يجمعهم تاريخ طويل من الصراع مع وجود حزب الله في لبنان. والد سعد رفيق الحريري ناضل مع هذا التحدّي واغتيل عام 2005 لمحاولته الوقوف في وجه نظام الأسد وحليفه حزب الله في لبنان. عدد كبير من الصحافيين والسياسيين اغتيلوا أيضاً للسبب نفسه على ما يبدو. ـــ غضب السعودية من تدخل حزب الله في اليمن حقيقي ومشروع. على الحزب أن يلتزم قرارات الحكومة اللبنانية بعدم التدخل بشؤون المنطقة. وما أزعج السعودية كثيراً، مناصرة حزب الله لقضية الحوثيين في اليمن وتورّطهم في توصيل وتجميع وإطلاق صواريخ من اليمن إلى الأراضي السعودية. لذا، نتفهّم بالكامل أن لا تتمكّن السعودية من أن تؤيّد حليفاً لها يشارك السلطة في حكومته مع حزب يبدو أنه شارك في تنفيذ هجمات صاروخية على عاصمتها الرياض.
ـــ حزب الله وإيران وسوريا لا يريدون أن تبني الحكومة اللبنانية ولا الجيش اللبناني علاقات وطيدة مع الولايات المتحدة أو مع السعودية. وعلى الولايات المتحدة وأصدقاء لبنان الآخرين أن يستمرّوا بدعم الجيش اللبناني وقوى الأمن. لكن يجب الضغط على الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي للعب دور أكثر فعالية في مراقبة الحدود والمعابر والمرافئ والمطار، كذلك يجب إنهاء التنسيق مع حزب الله الذي فرضه قتال «داعش».
ــ إذا كان المجتمع الدولي يريد فعلاً أن يردع حزب الله عن القيام بدور وكيل إيران وذراعها المسلّحة في المنطقة، يجب على مجلس الأمن أن يضع هذا الأمر تحت البند السابع.