قبل نحو أربعة أشهر، لزّمت وزارة الصحة اللبنانية شركات تأمين خاصة خدمات التدقيق في ملفات مرضى الوزارة، لمراقبة آلية دخول المريض الى المستشفى والإشراف على فواتير الاستشفاء. الهدف من الخطوة، بحسب الوزارة، ترشيد إنفاق السقوف المالية للاستشفاء (أموال وزارة الصحة المخصصة للإنفاق على المرضى الذين يتلقون خدمات استشفائية على حسابها).
القرار ليس الأوّل من نوعه. إذ اتّخذ وزير الصحة السابق وائل أبو فاعور قراراً مماثلاً، في آب 2016، قضى بتلزيم شركتي Globe Med وBest Assistance خدمات التدقيق في ملفات مرضى الوزارة في المستشفيات الخاصة فقط، في مقابل نحو 25 ألف ليرة عن كل معاملة. ومع انتهاء العقد، في آب الماضي، ارتأى وزير الصحة غسان حاصباني الاستمرار في قرار «تلزيم الخدمات»، على أن تشمل العقود الجديدة ملفات مرضى الوزارة في المُستشفيات الحكومية أيضاً. وأوضح مدير مكتب حاصباني، ميشال عاد، لـ«الأخبار»، أن الوزير أعدّ مناقصة لهذه المهمة «وفق معايير دقيقة وواضحة»، وقد رست على أربع شركات هي: Medivisa, Next Care, Globe Med, وBest Assitance.

توفير أم كلفة إضافية؟

أوكل الى هذه الشركات التدقيق في ملفات مرضى الوزارة (الاستشفاء فقط)، على تتولّى كل منها مراقبة المعاملات في واحدة من محافظات الشمال، والجنوب، والبقاع وعكّار. أمّا بيروت وجبل لبنان فقُسّمت الى أربع مناطق تتولى كلاً منها واحدة من الشركات الأربع أيضاً بحيث يحصل كل منها على عدد متساو من المستشفيات، على أن تتقاضى نحو 20 ألف ليرة عن كل معاملة.
وبحسب عاد، بلغ عدد المرضى الذين تلقّوا خدمات استشفائية على حساب وزارة الصحة العام الفائت نحو 280 ألف مريض. وبحساب بسيط، فإن شركتي التأمين السابقتين تقاضتا في عهد أبو فاعور، خلال سنة واحدة، نحو 7 مليارات ليرة لقاء خدماتهما. وفي حال بقي عدد المرضى على ما هو عليه، يتوقّع أن تتقاضى الشركات الأربع في مدة العقد الحالي نحو 5,6 مليار ليرة. ما يعني، بحسب حسابات الوزارة، تحقيق وفر يقدّر بنحو 1,4 مليار ليرة مقارنة مع العقد السابق.

دراسة الملفات وفق معايير شركات التأمين الخاصة قد ينعكس سلباً على المرضى


لكن، بعيداً عن حسابات «الوفر» هذه، فإن السؤال الأساس يبقى حول جدوى اللجوء الى شركات خاصة للإشراف على مهمات موكلة أساساً الى مندوبي الوزارة والأطباء المراقبين العاملين لديها في المُستشفيات. ويوضح مصدر إداري في مستشفى بيروت الحكومي لـ «الأخبار» أن «شركة التأمين تقوم حالياً بمهمة طبيب الوزارة المراقب، ما يعني أن الوزارة تدفع إلى جهتين للقيام بمهمة واحدة. وهذا يعني أن الأموال التي تُدفع إلى شركات التأمين تشكّل كلفة إضافية على الوزارة».
بحسب مدير مكتب وزير الصحة، فإن الاتفاق مع شركات التأمين يقضي بتفعيل عمل الأطباء المراقبين في المُستشفيات الذين «لم يكونوا يقومون بواجباتهم. وبموجب هذا الاتفاق، سيلتزم هؤلاء بالأعمال الموكلة اليهم». لكن، أليس الأجدى، والأوفر تالياً، أن تتخذ الوزارة تدابير لتفعيل عمل هؤلاء بدل تلزيم جهات أخرى هذه المهمة أيضاً، خصوصاً أن الأطباء المراقبين يتقاضون رواتبهم من الوزارة؟ يُجيب عاد بأن أجهزة الرقابة المُفعّلة تقتضي أن تكون هذه الأجهزة «منفصلة عن عمل الدولة»، لافتاً الى أن أعمال الرقابة التي ستمارسها شركات التأمين ستحدّ كثيراً من عمليات الاستغلال التي كانت تُمارس على مرأى من الأطباء والمُراقبين، والتي كانت تُكبّد الوزارة نفقات إضافية.
المصدر الإداري نفسه يصف هذا «المنطق» بأنه «تنفيع لشركات التأمين على حساب القيام بإصلاحات بنيوية تتعلّق بسلوك الأطباء التابعين للوزارة في المُستشفيات، وإرساء صورة جديدة عن آلية عمل الوزارة وضبطها لموظفيها». فيما يشدّد مصدر طبي على أن الواقع «يفترض قرارات معاكسة، بمعنى أن تسعى وزارة الصحة إلى مراقبة أداء شركات التأمين تجاه المرضى الذين تتعامل معهم»!

مصلحة المريض أم الوزارة؟

وأعرب أطباء تواصلت معهم «الأخبار» عن خشيتهم من أن دراسة ملف المريض وفق معايير شركات التأمين الخاصة قد ينعكس سلباً على المرضى. إذ أن معايير شركات التأمين لملفات الاستشفاء تختلف كثيراً عن تلك التي يعتمدها أطباء الوزارة. ويوضح أحد الأطباء أن «رؤية شركة التأمين قائمة بطبيعة الحال على مبدأ الربح والوفر المادي. هذه الخلفية ستؤثر حكماً في كيفية دراسة الملف»، فيما ترى الوزارة أن التغيير الوحيد الذي سيطرأ يتعلّق بالتنظيم. إذ أن بعض العمليات غير الطارئة قد تحتمل تأجيلاً وفق ما تقتضيه الآليات المتبعة إفساحاً في المجال أمام حالات أكثر إلحاحاً، «وهو أمر موجود في البلاد الأوروبية»، على حد تعبير عاد الذي يرى أن مريض الوزارة «سيتلقى خدماته الاستشفائية على أكمل وجه، ولكن بالطرق القانونية».
كما يلفت بعض الأطباء إلى ما أسموه «الجانب الأخلاقي» لمسألة منحِ شركات التأمين صلاحية التدقيق في ملفات المرضى. إذ أن «الكثير من المرضى الذين يأتمنون وزارة الصحة، كجهة حكومية، قد لا يرغبون بتسليم ملفاتهم الشخصية ومعلوماتهم لشركات التأمين».




تدقيق الفواتير: المهمة الأصعب!

يقول أحد الموظفين في مكتب الدخول في أحد المستشفيات الحكومية إن تسلّم شركة التأمين لملفات المرضى «سهّل الكثير من الإجراءات بسبب وجود الأطباء التابعين لهم والتزامهم بدوامات عملهم، بخلاف أطباء الوزارة الذين كانوا يتغيّبون»، مُشيراً إلى «غياب التطور الإداري في مؤسسات الدولة ومن ضمنها وزارة الصحة التي لا تراقب عمل الأطباء ولا ترعى بشكل موضوعي آلية توظيفهم». ويلفت الموظف إلى أن التحدّي الأكبر أمام شركات التأمين لا يكمن في تنظيم ملفات دخول المرضى، بل في قدرتها على التدقيق في الفواتير التي لطالما كانت تشكو منها الوزارة بسبب أرقامها التي كانت تعتبرها خيالية. وبالتالي، إن مهمة التدقيق في هذه الفواتير هي المهمة التي ستُثبت مدى فعالية عمل هذه الشركات.