أثار المقال السابق (ما هو مبرر وجود «نوفاتيك» في مشروع اتفاق بترولي «سري»؟ العدد ٣٣٤٧ الأربعاء ١٣ كانون الأول ٢٠١٧؟) ردود فعل عدّة، سعى بعضها إلى إبراز حجم هذه الشركة وأهميتها، خاصة في استثمار الغاز في سيبيريا. وإن كان هذا أمراً معروفاً لا يقبل الجدل، فالواقع أن موضوع المقال أمر آخر، إذ إنه يتناول التساؤل، كما يدل العنوان، عن هدف انضمام الشركة الروسية إلى توتال الفرنسية وإيني الإيطالية في العرض المقدم للتنقيب ولإنتاج البترول والغاز في الرقعتين 4 و 9 تجاه الشواطئ اللبنانية.
هذا التساؤل يعود إلى سببين: أولهما أن العرض المذكور جاء نتيجة لاستدراج عروض للقيام بأنشطة بترولية ليس على اليابسة، بل في مناطق بحرية وعلى عمق مئات الأمتار تحت قعر البحر، وبأعماق مياه قد تتجاوز ألفي متر، أي في مناطق ليس للشركة الروسية أية تجربة على الإطلاق في أماكن من نوعها. وهذا ما يفسر أصلاً تصنيفها، من قبل هيئة البترول ووزارة الطاقة، ليس بين الشركات «المشغلة»، أي الشركات العالمية الكبرى التي يمكنها القيام بمثل هذه العمليات، بل بين الشركات «غير المشغلة»، أي غير القادرة على ذلك.
السبب الثاني والأهم هو أن الاتفاق المزمع عقده من المفترض أن يكون من نوع اتفاقيات تقاسم الإنتاج، أي اتفاقيات تربط الدولة عبر شركة نفط وطنية، من جهة، بواحدة أو أكثر من الشركات العالمية، من جهة ثانية. وما دامت توتال أو إيني هما من العيار المطلوب لتولي دور «المشغل» (Operator) ومسؤوليته، لم يعد ثمة حاجة لوجود شركة أخرى، خاصة إذا كانت غير مشغلة، وإن انضمامها إلى ائتلاف توتال وإيني، واستكمال توزيع الحصص إلى 100%، يعنيان تلقائياً حلولها محل شركة نفط وطنية وفقدان الاتفاق المزمع عقده لمقومات نظام تقاسم الإنتاج الذي نص عليه القانون البترولي 132/2010. هذا لا يمنع طبعاً في المستقبل إقدام المشغل وشريكته الوطنية على إبرام عقود خدمات من نوفاتيك أو غيرها، كل حسب مؤهلاته ولقاء أجر معين.
توضيحاً لذلك، يجدر التذكير بأن نظام تقاسم الإنتاج يعني الاتفاق مع شركة تملك رأس المال والكفاءة اللازمة لتحمّل مخاطر التنقيب على نفقتها، في منطقة وخلال مدة وبشروط معينة. وإن فشلت، ينتهي الاتفاق. أما في حال حصول اكتشاف تجاري، فتمارس الدولة المضيفة حق الخيار المتفق عليه سلفاً للدخول كشريك، بنسبة لا تقل عادة عن 40%، وتسدد عندئذ تدريجاً ما يترتب عليها من نفقات التنقيب التي يكون الطرف الأجنبي قد تحمّلها، في إطار ما يسمى «Carried Interest»، ثم يصار للانتقال إلى مرحلة الإنتاج حيث يتقاسم الطرفان نفقات المشروع وأرباحه بالنسب المتفق عليها مسبقاً، ويعمل الطرف الوطني كشريك فعلي ويراقب كل ما يجري من الداخل ويكتسب تدريجاً الخبرة اللازمة، إلى أن يتمكن بعد مدة من القيام بالأنشطة المطلوبة بنفسه، أو حتى تولي مسؤولية «المشغل». علاوة على ذلك، يسدد الشريك الأجنبي رسوماً وعلاوات أخرى (Bonus) لا وجود لها أصلاً في لبنان، وضريبة دخل على أرباحه.

الشركة الروسية لا
تملك أي تجربة في مواقع الغاز البحرية

هذا ما حصل، وهذا ما يحصل في مئات عقود تقاسم الإنتاج المطبقة منذ منتصف الستينيات من القرن الماضي، في أكثر من 70 بلداً. وهذا ما سمح بنمو عشرات شركات النفط الوطنية في العديد من الدول، من إندونيسيا إلى دول الخليج العربي، مروراً بإيران والجزائر ومصر وإقليم كردستان العراقي، وصولاً إلى أذربيجان وكازاخستان، وغيرها من دول أفريقيا وأميركا الجنوبية.
العجيب الغريب، أن لبنان كان ولا يزال البلد الوحيد الشاذ، إذ إنه، بعد أن تبنى القانون البترولي 132/2010 نظام تقاسم الإنتاج، حصلت المفاجأة عندما قرر واضعو المرسوم التطبيقي 43/2017 طرد الدولة برمتها وإلغاء مقومات هذا النظام عبر المادة 5 التي تنص على أنه «لن يكون للدولة مشاركة في دورة التراخيص الأولى»، ما يشكل تزويراً صارخاً لمبدأ أساسي من القانون البترولي، وعودة مقنعة لنظام الامتيازات القديمة. وبما أنه لم يجرؤ أحد من المسؤولين عن هذا القطاع على الاعتراف بتزوير القانون هذا، بدأت المغالطات والتناقضات بينهم، إذ أخذ بعضهم يؤكد أن النظام المعتمد هو نظام تقاسم الأرباح، فيما رأى رئيس هيئة البترول في مقابلة مع جريدة «النهار» بتاريخ 17 نيسان 2015 أن النظام المعتمد هو نظام مبتكر يجمع محاسن الامتيازات القديمة من جهة، ونظام تقاسم الإنتاج من جهة أخرى. أما الوزير الحالي، فيقول ويكرر أن ما يطبق في لبنان هو نظام تقاسم الإنتاج. والدليل في نظره أنه يحق للدولة أن تتقاضى الإتاوة التعيسة (4% فقط لا غير على الغاز) وقسماً من الأرباح نقداً أو عيناً، وتسوقه في حال تسلّمه عيناً، أو تكلف الطرف الأجنبي تسويقه، فهذا يعني تطبيق نظام تقاسم الإنتاج، نقطة على السطر! هذا مع العلم أنه في ظل الامتيازات القديمة، كان أيضاً بإمكان الدولة المضيفة تقاضي إتاوة 12,5% من الإنتاج نقداً أو عيناً وتسويقها، ولم يفكر أحد حتى الآن، وقبل وزير الطاقة عندنا، في أن الامتيازات القديمة يمكن أيضاً تسميتها نظام تقاسم إنتاج!
بالإضافة إلى ذلك، يتضمن المرسوم 43/2017 شروطاً مالية تؤمن للدولة مبدئياً حصة لا تتجاوز 47% من الأرباح، خلال سنوات الإنتاج الأولى، مقابل 65-85% في الدول التي تطبق نظام تقاسم الإنتاج الحقيقي. نسبة الـ47% المذكورة قابلة مبدئياً للارتفاع عندما يوضع «عامل الدخل» موضع التنفيذ وفق شروط ما زالت سرية في لبنان. بانتظار ذلك، إن الفرق بين حصة دولة لا تتجاوز 47% في لبنان وحصة 65-85% في البلدان الأخرى يقارب معدل 30 نقطة مئوية من الأرباح. وهذا يترجم عملياً بخسائر تقاس بمليارات الدولارات، تقدر بنحو ثلاثين مليار دولار إذا افترضنا أن مجموع الأرباح في المنطقة الخالصة سيبلغ مئة مليار دولار.
هذه الانحرافات غير المسبوقة كانت موضع تساؤلات طرحها في شباط الماضي كتاب مفتوح وجهته إلى وزير الطاقة نخبة لا تقلّ عن الثلاثين من الوزراء السابقين وأساتذة الجامعات والاقتصاديين والإعلاميين والمهندسين. تساؤلات ما زالت تنتظر الأجوبة حتى الآن، حيث انبرى النائب جوزيف معلوف ليؤكد، دون أي تحفظ أو تردد، أن نظام الاستثمار في لبنان هو نظام تقاسم الإنتاج، وأن القانون الجديد الخاص بالشفافية في قطاع البترول، الذي أخذ النائب المذكور المبادرة في صياغته، يجعل من التشريع البترولي في لبنان «منظومة متكاملة هي الأفضل في العالم» (كذا بالحرف).
وبما أن سعادته عضو في المجلس النيابي، فلا شك في أنه يعرف أن كل الأحكام المالية وكل الأرقام الموجودة في المرسوم «التطبيقي» 43/2017، دون استثناء، قد وضعها موظفون في وزارة الطاقة، من دون علم أعضاء المجلس النيابي. كذلك فإنه لا يجهل أن إقدام هؤلاء الموظفين ومن يقف وراءهم على طرد الدولة من الأنشطة البترولية، نتيجة للمادة 5 من المرسوم نفسه، لا يمكن أن يوصف إلا بالتزوير الصارخ للقانون 132/2010، وباغتصاب صلاحيات السلطة التشريعية. كذلك لا يجهل أن الكلام عن نظام تقاسم الإنتاج، بعد تعطيل دور الدولة، لم يعد له أي معنى، إذ إن هذا النظام يقتضي اتفاقاً بين شركة كبرى مشغلة وشركة وطنية تمثل الدولة (لا شركات وهمية أو مارقة تغطي بعض المصالح الخاصة). أما الحديث عن قوانين الشفافية وحق النفاذ إلى المعلومات ومكافحة الإثراء غير المشروع (فضلاً عن إنشاء وزارة خاصة لمكافحة الفساد!) فلا يتعدى كونه وسيلة جديدة لإلهاء اللبنانيين وتغطية عملية نهب لا مثيل لها للثروة النفطية.
أخيراً لا آخراً، لا يحتاج المواطن اللبناني لكثير من الخبرة كي يدرك أن الحل الوحيد لوضع حد للتضليل والانحرافات هو الإسراع في إقرار مشروع قانون إنشاء شركة نفط وطنية، وأن يشترط في كل اتفاق استكشاف وإنتاج أن يكون لهذه الشركة حصة لا تقل عن الحد الأدنى المعمول به في العالم.