تبدأ الفقرة «ب» مِن مقدّمة الدستور اللبناني على النحو الآتي: «لبنان عربيّ الهويّة والانتماء». قيل إنّ الحرب الأهليّة قفلت على ذلك. لكن أخيراً، وبالتزامن مع الاحتفال باليوم العالمي للغة العربيّة، قبل نحو أسبوعين، كان للسُلطة في لبنان «اجتهاد» آخر. لوحات تسجيل السيّارات، بنموذجها الجديد، لن تكون عربيّة.
لن نرى، عمّا قريب، لوحات بصيغتي ترميز، عربيّة ولاتينيّة، كالمنتشرة حاليّاً. ستكون مرمّزة بالحرف اللاتيني فقط. هذا ما ظهر في اللوحة النموذج التي كشفت عنها «هيئة إدارة السير» أخيراً، إذ أعلنت مِن وزارة الداخليّة، في مؤتمر صحافي، انطلاق حملة التبديل رسميّاً. هكذا، سنرى مثلاً أنّ حرف «م» على لوحة سيّارة قد أصبح "P" (الأحرف التي ستُستخدم هي كالآتي: B, G, J, M, N, O, R, S, T, Z, P, D, C, إضافة إلى الحرف A لكلّ سيّارة لم تكن مرمّزة سابقاً). بعيداً عن الجملة «العروبيّة» الواردة في مقدّمة الدستور، وهي قاعدة عامة ــــ سامية، كيف أمكن للمسؤولين، وعلى رأسهم النوّاب الذين شرّعوا نصّ هذا القانون، أن يقفزوا فوق المادة 11 مِن الدستور، التي تنصّ على أنّ «اللغة العربيّة هي اللغة الوطنيّة الرسميّة»؟ ألا يعني هذا أنّه يُمكن الطعن، أمام المراجع المختصة، بالنصّ الوارد في قانون السير الجديد؟ هكذا «عيّدت» السُلطة في لبنان باللغة العربيّة في يومها العالمي. بالمناسبة، الآن بدأ التطبيق، إنّما التشريع حصل عام 2012 ولحقه تعديل (خاص بالمادّة 154 المعنيّة باللوحات) عام 2016. أمّا القرار التنفيذي (المتعلّق بالتفاصيل الشكليّة والألوان) فقد أصدره وزير الداخليّة السابق مروان شربل. دار آنذاك نقاش حول إلغاء «اللوحة الزرقاء» الخاصّة بالنواب، وما شاكل مِن تفاصيل، أمّا موضوع اللغة، فلم يشغل أحداً مِن المشرّعين، بمن فيهم أقحاح النطق بالضاد.
سألنا الوزير شربل عن هذه المسألة، التي أقرّها هو، بعد إقرارها مِن النوّاب، فقال: «لا أعتقد أن هناك في لبنان مَن لا يعرف قراءة الحرف اللاتيني، فاللبناني مشهور بمعرفة اللغات، وعموماً نحن بلد سياحي، وهذا ما حُكي يومها، والأجنبي السائح يحتاج أن يقرأ». هذه هي. ثقافة «الخواجة أولاً» إيّاها. لا يُلام شربل على ذلك، بالأصل، فهو كان وزير تنفيذ، بل يُلام «نوّاب الأمّة». عموماً هذه مسألة يُمكن أن تُستدرك الآن، بطريقة ما، إن كان هناك مَن «يسهر على احترام الدستور» فعلاً، وإن كان هناك أيضاً مَن يرى أن هذه مسألة ليست عابرة، إذ تطال ثقافة البلاد العامة، خاصّة في مسألة بصريّة (السيّارات) تملأ الفضاء العام.

قفز المُشرّعون
عن نصّ الدستور بأنّ العربيّة هي اللغة الرسميّة في لبنان

الحديث عن مشهد عام. ما «الهويّة» إن لم تكن في مثل ذلك؟ ليس لدى هدى سلّوم، وهي على رأس إدارة «هيئة إدارة السير» التابعة لوزارة الداخليّة، ما تقوله حول الموضوع إلا بأن تحيل الأمر إلى قرار الوزير شربل سابقاً (قرار 401)، إضافة إلى دور مجلس النواب بالتشريع (بالقانون 61 وقانون السير). تخبرنا أنّها تطبّق القانون، والأمر ليس بيدها، وهذا صحيح. يشغلها هذه الأيّام تفلّت، أو فساد، بعض المعتمدين الذين يتقاضون مِن المواطن أكثر مِن المبلغ المحدد لتبديل اللوحات (التكلفة، نحو 50 ألف ليرة، على نفقة المواطن). اللافت أن قرار اللغة في اللوحات لم يأتِ سهواً، أو ارتجالاً، إذ نجد في قانون السير الجديد، الذي أشبع بحثاً ونقاشاً على مدى سنوات، حرفيّاً أنّه: «يتكوّن رقم اللوحة مِن حرف لاتيني مِن جهة اليسار».
المسألة لا تتعلّق فقط باستبدال الحرف العربي بالحرف اللاتيني، فالأمر عينه، وإن بتخريج مختلف، ينسحب على الرقم أيضاً. لن تحوي اللوحات الجديدة شكلين مِن رسم الأرقام، كالمنتشرة حاليّاً، التي يعرفها الشارع بالأرقام العربيّة والأرقام الأجنبيّة. سيكون هناك الرقم «الأجنبي» فقط. هذه مسألة معقّدة نوعاً ما. في الواقع هو ليس أجنبيّاً، بالمعنى التاريخي، إنّما هذا هو الشائع بين الناس راهناً. لفت الوزير المشنوق، في مؤتمره الصحافي أخيراً، إلى هذه المسألة، فقال ردّاً على استفسار: «هيدا الرقم العربي الأصلي، إللي بسمّوه الهندي، فرجعنا إلى الأساس. هذا هو الرقم العربي الأصلي، وعمليّاً لا أعتقد أن هناك صعوبة في قراءته عند أحد». هنا ثمّة ما يحتاج إلى توضيح. صحيح أنّ الرقم المستخدم في الغرب، في عصرنا، يُطلق عليه الحرف العربي، وأنّه انتقل إلى أوروبا عبر العرب بعد الخوارزمي (بواسطة البابا سيلفستر الثاني وسواه)... إلا أنّ ذاك الرسم للرقم لم يُعتمد في المشرق العربي، بل شاع في المنطقة المغاربيّة قبل أن ينتقل إلى الغرب عبر الأندلس. لذا، فإن رسم الحرف كما نعرفه في بلادنا، الذي أخذه العرب بدورهم عن الهنود وطوّروه وأضافوا الصفر، هو الذي جرى اعتماده في المنطقة المشرقيّة عربيّاً منذ بغداد العبّاسيين. لبنان ضمن هذه المنطقة. هذا بحث تاريخي فيه كلام كثير، إنّما يبقى، في الوعي العام المتّصل مِن قرون إلى الحاضر، أنّ هذه أرقام عربيّة وتلك أجنبيّة، وبالتالي ما هذه الرجعة إلى الأصول الآن، فجأة، التي تجعل لوحات السيّارات في الشارع كلوحات سيّارات أوروبا وأميركا في الحرف والرقم!
تلك المُراسلة التي عدّت، في تقريرها، اللوحات الجديدة «خطوة على سكّة الحداثة الأصليّة» تلخّص كيف سيكون التلقّي العام. حداثة في اللغة أيضاً! بمسحها واستبدالها بلغة أخرى! فهمها ابن خلدون قديماً، في أنّ «المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب، في شعاره وزيّه ونحلته وسائر أحواله وعوائده«. حسناً، هذه فهمناها، لكن فلتترك لنا لغتنا. إحدى خيمنا الأخيرة، أقلّه كخيار، كوعاء لتراثنا وأفكارنا.