في ما مضى، منذ ما بعد اتفاق الطائف، لم يكن الخلاف بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب او بينه وبين رئيس الحكومة، كما بين رئيسي المجلس والحكومة، اقل وطأة مما هو اليوم بين الرئيسين ميشال عون ونبيه برّي. في مراحل نجم عن خلافاتهم حرد تارة واعتكاف طوراً ومقاطعة في كل حال. كان ثمة «مصلح» بين كل اثنين او بين الثلاثة حتى، يتصرّف على انه اقوى من الرؤساء الثلاثة كي يتمكن من مصالحة هذا مع ذاك او مع ذلك.
تلك حال نائب الرئيس السوري عبدالحليم خدام او اللواء غازي كنعان، وكلاهما عدّ نفسه بنفوذه فوق الرؤساء الثلاثة لا حدّهم، فنجح مرة بعد اخرى في اصلاح ذات البين. كان يكفي الرئيس السوري ايفاد احدهما كي يلين المختلفون ويُقبلون على المصالحة.
اليوم يبدو ان احداً لا يسعه ان يكون «شيخ صلح» بين عون وبري ما لم يتدّخل شخص واحد فقط ــ من الداخل لا من الخارج ــ هو الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصرالله. حتى الآن يحجم نصرالله والحزب عن اي دور، معلن على الاقل، بين حليفيه الرئيسيين اللذين يكادا يقتربان من خط اللاعودة. صمتٌ كهذه يبدو مثيراً للانتباه اكثر منه مريباً. يحتاج الحزب الى حليفيه، واعتاد معالجة خلافاتهما المخضرمة على مر السنوات المنصرمة، او التوفيق بينهما بحلول وسطى باستثناء واحد هو انتخاب عون رئيساً للجمهورية. مشى الحزب مع المرشح الرئاسي، واقترع ضده رئيس المجلس.

ما بين الرئيسين
اتهامات ضمنية متبادلة بمخالفة الدستور وتكريس اعراف


ما بين رئيسي الجمهورية والبرلمان، خصوصاً بعد تبادل «مكتب الاعلام» في رئاسة الجمهورية و«المكتب الاعلامي» في مجلس النواب البارحة، في وقت قصير، ردوداً اكدت المضي في الخلاف، بدا غير قابل للرأب بالسهولة المتوقعة في احسن الاحوال. من مشكلة بدأت سياسية هي مرسوم منح ضباط دورة كاملة (1994) اقدمية سنة، اضحت الآن دستورية شائكة يصعب القول ان الوساطة وحدها كافية لتذليلها. لا تشبه سوابق عهدي الرئيسين الياس هراوي واميل لحود على حصص او مناصب، مقدار ما باتت تمسّ النظام برمته. وهو ما ابرزته الاتهامات الضمنية المتبادلة بين الرئيسين: مرة بمخالفة الدستور، واخرى بتكريس أعراف لانشاء صلاحيات غير منصوص عليها في الاساس.
ما تناوله ردّا عون وبرّي امس مفاده اختلافهما الجذري على طريقة معالجة مشكلتهما. رئيس الجمهورية يريد الاحتكام بها الى القضاء كون الازمة ذات بعد تنظيمي اداري، بينما دعا رئيس المجلس الى الاحتكام الى البرلمان لأن الازمة دستورية ترتبط بصلاحيات دستورية، ونشأت بالنسبة اليه من اخلال في تطبيق مادة دستورية هي المادة 54، وهو رمى اليه بكلامه عن تفسير الدستور. كلتا المرجعيتين ايضاً يصعب على كل منهما ايجاد الحل فيها وفق ما يطلبه: ليس من السهل الذهاب الى مجلس النواب بنصاب انعقاد هو ثلثاه ونصاب مماثل لتفسير مادة دستورية وسط انقسام الرأي في البلاد وبين الكتل بين الرئيسين، وفي ظل انكفاء رئيس الحكومة سعد الحريري عن اي دور. كذلك حال مجلس شورى الدولة الذي يرتاب برّي في قراراته مذ قال ان وزارة العدل «منتمية»، اضف اتخاذه في 8 ايار 2017 قراراً اجاز نفاذ مراسيم تتصل بترقية ضباط من دون نشرها.
في الحصيلة، كلتا ورقتي القضاء الاداري ومجلس النواب غير رابحتين لأي منهما بفضل موازين القوى الداخلية.
ما بات عليه خلاف الرجلين منذ منتصف الشهر الفائت، في ازمة مفتوحة على سجال يومي يتصدّر سواه، ان كلا منهما يقارب المشكلة على نحو متباعد تماماً عن الآخر، في الاصل والفرع:
ــــ بحسب ما يسمعه منه زواره، يقول رئيس الجمهورية انه منفتح على تصحيح اي خطأ يمكن ان يكون ورد في مرسوم منح ضباط دورة 1994 الاقدمية بمرسوم آخر ملحق يصححه، اذا ما تضمّن المرسوم الاول اسماء دخيلة على دورة 1994 او يقتضي ادخال اسماء اخرى اليه أُهملت. الا ان من غير الوارد بالنسبة اليه العودة الى الصفر، بارسال المرسوم الى وزير المال كي يصير الى توقيعه. يتمسك الرئيس بوجهة نظره، وهي ان المرسوم وقعه الوزير المختص، وزير الدفاع الوطني، ولا حاجة من ثم الى توقيع وزير المال كونه في رأيه لا يرتب اعباء مالية. بذلك يقصر عون المناقشة على مضمون المرسوم لا على شكله وآلية نفاذه التي لا تحتاج الى نشر. ما يقوله ايضاً: لن اتراجع عن توقيع المرسوم، ولن اقبل بأن يقال انه مرسوم مخالف للدستور لأن وزير المال لم يوقعه.
ــــ في مقلب مناقض تماماً، يقول رئيس المجلس انه تجاوز مضمون المرسوم ــــ وكان سارع الى الاعتراض على اقدمية لدورة برمتها دفعة واحدة وضباطها الذين يقاربون مئة ضابط دونما اقترانها بأعمال باهرة مبرّرة ادّوها جميعاً ــــ الى رفض آلية نفاذه على نحو ما حصل، باهمال توقيع وزير المال وعدم احالته عليه في الاساس. بادىء بدء اعتبر برّي المرسوم نجم عن خطأ يمكن تصويبه في المضمون والشكل، قبل ان يذهب بالمواجهة مع رئيس الجمهورية في الايام الاخيرة الى الذروة، كي يقول ان تجاهل توقيع وزير المال يمسّ اتفاق الطائف بالذات ويقوّضه. بين موقفي الحد الادنى والاقصى، اقترح رئيس المجلس اعادة المرسوم الى وزير المال لتوقيعه، ومن ثم يصبح نافذاً تبعاً للاصول الدستورية من خلال مراعاة المادة 54.
عثر رئيس الجمهورية في اصرار برّي على التوقيع، على فخ مؤداه ان توقيع وزير المال مرسوماً لا تترتب عليه اعباء مالية، يسجّل سابقة توقيعه كل المراسيم من الآن فصاعداً. وهو ما يرفضه عون، اذ يميز بين هذين الطرازين من المراسيم، التي ترتب اعباء مالية او لا ترتب. اضف ان المادة 47 من قانون الدفاع التي انشأت مرسوم منح الاقدمية لم تسمّ وزير المال في عداد موقعيه كوزير الدفاع، وحصرت المراجع المعنية بانشاء مرسوم منح الاقدمية باقتراح وزير الدفاع وانهاء قائد الجيش وموافقة المجلس العسكري. اما رئيس المجلس فلم يتردد في القول ان المرسوم يتجاوز المادة 54 من الدستور، ويخل بمسألة جوهرية نصّ عليها اتفاق الطائف، حينما نقل الصلاحيات من رئيس الجمهورية الى مؤسسة مجلس الوزراء مجتمعاً، هي الشراكة في السلطة الاجرائية. وهو ما عناه بقوله ان الصلاحيات ليست في يد «شخص واحد». ترجمة لهذا الموقف جمّد وزير المال مرسوم ترقيات الضباط الى ان يُشطب منه ضباط دورة 1994.