اذا كانت بضعة اقتراحات تسوية تنقّلت بين رئيسي الجمهورية والبرلمان، في الايام المنصرمة، اخفقت في التوصل الى تسوية بين الرجلين، فإن الاقتراح الجديد الذي حمله النائب وائل بوفاعور الى رئيس الحكومة سعد الحريري، الخميس، آيل الى مصير مماثل. ليس في حسبان اي من الرئيسين ميشال عون ونبيه برّي الوصول الى تسوية، مقدار اصرار كل منهما على حل لا يسعه الا ان يُفسَّر مكسباً له على الآخر.
ذلك مغزى القول ان مشكلة مرسوم منح ضباط دورة 1994 اقدمية سنة، تكاد تصبح مستعصية، وان معظم مَن توسّطوا أخفقوا، كما ان اقتراح مخرج من هنا صار يقابله اقتراح مخرج مكمّل من هنا. بذلك بات ما يطرحه احد الرئيسين سبباً مباشراً كي يرفضه الآخر، وإشعاراً منه لندّه انه لن يتزحزح عن موقفه، ما يجعل مرسوم الاقدمية ليس الازمة الاسوأ بين المراجع الرسمية، بل الاطول عمراً. اختلط فيه الجانب السياسي بالشخصي، والسياسي بالدستوري، والسياسي بالطائفي. افرز الكتل النيابية بينهما، وأفصح عما هو اكثر شقاء: ليس ثمة ما يحتكم اليه الرئيسان في النصوص بسبب خلافهما على آليات الاحتكام. لا مرجع آخر في الداخل يسعه التحرّك. لا مقدرة لرئيس الحكومة على التحرّك، مرة لاتهامه بالانحياز الى رئيس الجمهورية، واخرى لعجزه عن ايجاد افكار حل، وثالثة لانصرافه منذ جلسة مجلس الوزراء الخميس الفائت الى ما يشغله هو الآخر: صلاحيات رئيس مجلس الوزراء.
في الايام المنصرمة منذ اندلاع ازمة المرسوم، اكثر من طرف دخل وسيطاً فيها واخفق.

حمل حزب الله اقتراحاً الى عون، فربطه بتعديل رفضه برّي


اول الاقتراحات نُقلت الى رئيس الجمهورية، ان يصير الى تطعيم مرسوم ضباط دورة 1994 بضباط من دورة 1995 بالاتفاق بين رئيسي الجمهورية والمجلس يوقّعه وزير المال. رفض عون الاقتراح، وقال لحامله انه كقائد سابق للجيش ادرى في الجيش من الآخرين، مصراً على موقفه من المرسوم بحصره بضباط دورة 1994 واعتباره نافذاً، وان لا حاجة الى توقيع وزير المال ما دام في نظره ليس الوزير المختص.
كانت ثمة مبادرة ثانية، تولاها هذه المرة حزب الله الذي كان في صلب البحث عن حلول بين حليفيه الرئيسيين، المحرج حيالهما، وإن بعيداً من الاضواء. قال اقتراح الحزب ــــ وهو في بند وحيد يتيم ــــ بتوقيع وزير المال المرسوم، من ثم يصبح نافذاً. رمى بذلك الى مراضاة الحليفين اللدودين: منح ضباط دورة 1994 اقدمية سنة على نحو اصرار رئيس الجمهورية، وتوقيع وزير المال علي حسن خليل المرسوم تبعاً لشرط رئيس المجلس الذي تبنّى اقتراح حليفه، وجهر به، وعكس من خلاله استعداده التنازل عن اعتراضه على مضمون المرسوم الذي قال به في مطلع الازمة تلك. من ثم يخرج الجميع من المأزق العالق.
حمل موفد حزب الله الاقتراح الى قصر بعبدا، فردّ رئيس الجمهورية عليه بشرط في مقابل شرط: توسيع نطاق المخرج كي يشمل جانباً آخر، هو الذهاب الى مجلس النواب وتعديل المادة 56 من الدستور على نحو يقيّد رئيس الحكومة والوزير بمهلة محدّدة لتوقيع المرسوم، يصير نافذاً من بعدها، على ان تكون اقل من تلك المقيّدة لرئيس الجمهورية في المادة تلك (15 يوماً)، اذ تجعل المرسوم نافذاً متى انقضت المهلة من غير ان يمهره بامضائه.
عاد الموفد بالاقتراح معدّلاً الى برّي، فرفض بدوره الشق المضاف اليه، وهو الذهاب الى مجلس النواب لتعديل الدستور. اذذاك دخلت ازمتهما في الطور المتعذّر الخروج منه بسهولة، وقد يكون طوراً بلا ابواب:
ــــ لا رئيس الجمهورية رحب بتوقيع وزير المال على المرسوم، اذ اعتبر انه ليس الوزير المختص فيه، ولا رحب بما ينطوي عليه اقتراح رئيس المجلس وهو تكريس سابقة توقيع وزير المال على كل المراسيم، بما فيها التي لا ترتب اعباء مالية. حاول ايضاً القاء الكرة في ملعب ندّه بادخال تعديل على المادة 56، وتقييد رئيس الحكومة والوزير بمهلة توقيع بعدما جمّد وزير المال ترقيات ضباط الجيش بامتناعه عن توقيع مرسومهم مطلع السنة الجديدة ما لم يُشطب منهم ضباط دورة 1994.
وجهة نظر رئيس الجمهورية كالآتي: اذا كانت المشكلة سياسية، فإن القضاء (مجلس شورى الدولة) هو المرجع الصالح لحلها. واذا كانت دستورية تذهب الى مجلس النواب على ان لا يقتصر التفسير على المادة 54 بالزام وزير المال توقيع كل المراسيم، بل ايضاً الزامه مهلة محدّدة للتوقيع.
ــــ ولا رئيس المجلس تخلى عن الوجهة الفعلية لأزمة المرسوم، وهي اصراره على توقيع وزير المال عليه كي يمسي قائماً ودستورياً. هو بذلك يتصرّف على ان لا وجود لمرسوم الاقدمية، ويقول امام زواره ان الخلاف اضحى دستورياً بحتاً. في الوقت نفسه لا يريد الانتقال بالمشكلة الناشبة بينه ورئيس الجمهورية، الناشئة عن تعارض في تفسير كل منهما المادة 54، الى مشكلة اخرى في مكان مختلف تماماً، و«فش الخلق» بالمادة 56 بتعديلها في مجلس النواب. كلتا المادتين شأنان مختلفان، لا رابط بينهما في الازمة القائمة.
يوافق برّي على الاحتكام الى البرلمان بتفسير للمادة 54 فحسب، لا الذهاب الى ما يتعداها، وهو المادة 56، لأن في ذلك اعادة نظر في الاصلاحات الدستورية التي نصّ عليها اتفاق الطائف.
بذلك يشرّع خلاف الرئيسين الباب على ازمة مفتوحة، الى ما بعد الانتخابات النيابية في ايار المقبل ربما، ما لم تحدث اعجوبة اكثر منها مفاجأة. يعزّز هذا الاعتقاد قول رئيس الجمهورية ان مرسوم الاقدمية صار وراءه، وقول رئيس المجلس ان ليس عنده ما يزيد وهو ينتظر ولا يضجر من صبره.