«إن مستويات تركّز الدخل والثروة في لبنان مرتفعة جدًا، ويعود ذلك إلى كون الفئات الأكثر ثراءً من اللبنانيين تسجّل أعلى مستويات النمو في الدخل الوطني، ما يؤدي إلى إفقار السواد الأعظم من السكان».
هذه خلاصة دراسة بعنوان «إعادة النظر في الأعجوبة الاقتصاديّة اللبنانيّة: التركّز الشديد للدخل والثروة في لبنان بين عامي 2005 و2014»، أعدّتها الباحثة في كلية باريس للاقتصاد ليديا أسود، بإشراف الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي. وتعرض الدراسة التقدير الأوّل من نوعه (ربّما) لتوزّع الدخل الوطني في لبنان في الفترة المُمتدة بين عامي 2005 و2014، من دون أن تفصل النتائج التي توصلت اليها عن الامتداد التاريخي لحالة انعدام المساواة في لبنان،.
فوفق الإحصاء الوطني الذي أجري عام 1960 (وقد تكون الدراسة الوحيدة المنشورة حول نصيب توزّع الدخل)، كانت نسبة 4% من السكان تستحوذ على 32% من إجمالي الدخل الوطني، فيما يتقاسم 50% من السكان 18% من إجمالي الناتج (2% من الناتج للـ9% الأكثر فقراً). وهذه الحالة من انعدام المساواة تفاقمت تدريجياً، خصوصاً بعد انتهاء الحرب اللبنانيّة، حتى أصبح لبنان «مصنّفاً ضمن الدول التي تسجّل أعلى مستويات تفاوت الدخل وانعدام المساواة في العالم».
بحسب النتائج التي توصّلت اليها الدراسة «يعاني لبنان من تركّز شديد في الدخل. هناك 10% من السكان يستحوذون على 55% من الدخل الوطني، و1% منهم فقط يستحوذون على 25% منه». أكثر من ذلك، ولدى تحليل معدّلات الثروة، يتبيّن أن «فئة الـ10% الأكثر ثراءً تستحوذ على 70% من إجمالي الثروة الوطنيّة، فيما تستحوذ فئة الـ1% الأكثر ثراءً على 40% من هذه الثروة».
بناءً على هذه النتائج، تستخلص الباحثة «صعوبة الجزم في أسباب التركّز الشديد للدخل في لبنان، أكان ناتجاً عن الخلل البنيوي في الاقتصاد الريعي الذي ينتج فوارق اقتصاديّة، أو عن الأزمات الاقتصاديّة والسياسيّة التي مرّ بها لبنان بعد انتهاء الحرب اللبنانيّة كنتيجة مباشرة للسياسات الماليّة والاقتصاديّة المتبعة»، مشيرة إلى أنها تدفع باتجاه التشكيك في نظرية «الأعجوبة الاقتصاديّة اللبنانيّة*» كون الازدهار الذي ينعم به القطاعان المالي والعقاري لا ينعكس سوى على قسم صغير جدًا من السكان، في حين أن السواد الأعظم يعيش في حالة من الفقر المدقع.

اللامساواة إلى ازدياد!

تعتمد الدراسة على جداول حول نتائج الاستطلاعات الخاصّة بالأسر رغم ندرتها، بحيث استندت إلى بيانات عام 2007، والبيانات الضريبيّة للأفراد رغم عدم تجانسها من الناحية الزمنيّة بحيث يمكن الوثوق بالبيانات المقدّمة، وصولاً إلى فئة الـ1% الأكثر ثراءً نتيجة عدم تسجيل معظم المداخيل الرأسماليّة (كعوائد الأسهم والفوائد وأرباح الشركات وعوائد الإيجار وضريبة الأرباح على الشركات)، وتقارير الماليّة العامّة والسجلات الوطنيّة، رغم عدم تصنيفها بما يتيح وضع تقدير كافِ لقيمة الإعفاءات الضريبيّة على المداخيل الرأسماليّة (أرباح الأسهم والفوائد والعقارات)، وتصنيفات الثروة المنشورة في «فوربس» و«أرابيان بيزنس» لتعويض الدخل الرأسمالي غير المحتسب. وفي تحليل لهذه الأرقام، يتبيّن التالي:
ـــ مستويات تركّز دخل شديدة الارتفاع:
تربط الدراسة نصيب الفرد من الدخل الوطني بالتدفقات الماليّة الآتية من الخارج، بحيث أن مستويات المعيشة النسبيّة قد لا تكون مرتفعة، بل تلعب العلاقات الاقتصاديّة الخارجيّة دوراً محورياً في رفع نصيب الفرد من الناتج وفي استقرار الاقتصاد الكلي.
وبالنتيجة، يستحوذ 10% من البالغين وهم الأكثر ثراءً على 57.1% من إجمالي الدخل الوطني، أمّا الـ50% الأقل ثراءً من البالغين فيستحوذون على 10.6% من إجمالي الدخل الوطني، فيما يستحوذ 40% من البالغين المنتمين إلى الفئة المتوسطة بين الـ10% الأكثر ثراءً والـ50% الأقل ثراءً على 32.3% من إجمالي الدخل الوطني. وفي إشارة أكثر وضوحاً عن شدّة تركّز الدخل، يتبيّن أيضاً، أن 1% من الأكثر ثراءً (نحو 37 ألف فرد) يستحوذون على 23% من إجمالي الدخل الوطني (ضعف ما يحصل عليه الـ50% الأقل ثراءً والبالغ عددهم نحو 1.5 مليون فرد)، وأن 0.1% من الأكثر ثراءً (نحو 3 آلاف فرد) يحصلون على الحصة نفسها من الدخل الوطني التي يحصل عليها الـ50% الأقل ثراءً، في حين أن 0.01% (372 فرداً) منهم يستحوذون على 6% من إجمالي الناتج، وفقط 0.001% منهم (37 فرداً) يستحوذون على 3.3% من إجمالي الدخل الوطني.

10% من السكان يستحوذون على 55% من الدخل الوطني و1% منهم على 25% منه

ـــ توزّع معدّلات النمو الاقتصادي على الأكثر ثراءً:
ارتفع الدخل الوطني بين عامي 2005 و2014، وبلغ معدل النمو التراكمي لهذه الفترة حوالى 50%، وهو ما أدى إلى ارتفاع نصيب الفرد البالغ من الدخل الوطني بين عامي 2005 و2010، قبل أن ينخفض بين عامي 2011 و2014 بنسبة 50% نتيجة النمو السكاني الحادّ بعد تدفق النازحين السوريين. ويتبيّن من البيانات أن معدّل النمو الإيجابي خلال تلك الفترة انعكس إفقاراً عاماً للسكان اللبنانيين، كون 90% من الأقل ثراءً شهدوا نمواً أقل من المعدل المتوسط بكثير، في حين أن الـ10% الأكثر ثراءً (باستثناء الـ0.001% منهم أي ما يعادل 25 إلى 37 شخصاً بالغاً خلال تلك الفترة) نعموا بمعدلات نمو مرتفعة جداً، ويعود ذلك إلى «إعادة الإعمار» بعد حرب تموز 2006 التي تزامنت مع ازدياد الطلب على المنازل (المستمرّة حتى اليوم نتيجة تدفق اللاجئين) وارتفاع أسعار العقارات وعائدات الإيجار في شكل حادّ.
ـــ انعدام المساواة في الثروة:
الاستنتاجات التي تتوصّل إليها الدراسة بشأن التفاوت في تركّز الثروة مشابهة لتلك المتعلّقة بانعدام المساواة في الدخل، بحيث يتبيّن من البيانات المستخرجة من تصنيفات «فوربس» و«أرابيان بيزنس» لأصحاب الثروات في لبنان خلال عامي 1990 و2016، أن فئة الـ50% الأقل ثراءً تستحوذ على 5% من الثروة فقط، وأن الـ40% من الفئة المتوسطة تملك 25 ــــ 30% من إجمالي الثروة، مقابل 65 ــــ 70% من الثروة تستحوذ عليها فئة الـ10% الأكثر ثراءً، فيما يحصل الـ1% الأكثر ثراء على 40 ــــ 45% من هذه الثروة. علماً أن هذه المعدلات أعلى بكثير من مثيلاتها في الصين وفرنسا، وأعلى بقليل من مثيلاتها في روسيا والولايات المتحدّة في الفترة نفسها.
ـــ اختلال توزّع الدخل:
تؤكّد الدراسة استحالة مقارنة مستوى انعدام المساواة في الدخل في لبنان مع بلدان أخرى بسبب محدوديّة البيانات المتوافرة. إلّا أن تعادل القدرة الشرائيّة للعام 2016 في كلّ من لبنان وفرنسا، يبيّن التفاوت الواضح بين مجموعات الدخل الواحدة.

ففي مقارنة لمتوسط الدخل لكلّ فئة سكانيّة في لبنان وفرنسا، تظهر شدّة اختلال توزع الدخل في لبنان. ففي حين يسجّل متوسط الدخل لدى جميع الفئات السكانيّة وصولاً إلى الـ1% الأكثر ثراءً في لبنان معدلات أدنى من متوسط الدخل لهذه الفئات نفسها في فرنسا، بحيث يبلغ متوسط دخل للـ50% الأقل ثراءً في لبنان نحو 40% من متوسط الدخل للفئة نفسها في فرنسا، ونحو 90% ضمن فئة الـ1% الأكثر ثراءً. تنقلب المعادلات ضمن الفئات الأكثر ثراءً، فيصبح متوسط الدخل للـ0.01% الأكثر ثراءً في لبنان أعلى من فرنسا بنسبة 190%، كما يسجّل متوسط الدخل للـ0.001% الأكثر ثراءً في لبنان معدلات أعلى من فرنسا بنسبة 335%.
وفي مقارنة لنصيب الـ10% والـ1% الأكثر ثراء في لبنان مع بيانات دول نامية تعاني من مستويات مرتفعة لانعدام المساواة في الدخل، ودول أخرى صناعيّة مثل الصين وروسيا وفرنسا والولايات المتحدة، يتبيّن أن لبنان يعاني من أعلى مستويات تركّز الدخل في العالم أجمع.

حكم المصارف

تدرج الدراسة النتائج ضمن سياق تاريخي لتقدّم أربعة تفسيرات محتملة لمستويات انعدام المساواة المرتفعة بين عامي 2005 و2014:
1 ــــ تشكّل بنية الاقتصاد الريعيّة ونظام المحاصصة الطائفيّة الذي سمح للنخب الطائفيّة بالسيطرة على معظم الموارد وإعادة توزيعها وفق منطق الزبائنيّة الاجتماعيّة أحد المداخل الأساسيّة للتفاوتات الاجتماعيّة والاقتصاديّة حادة.
2 ــــ تسبّبت سياسة عدم تدخّل الدولة في الاقتصاد التي اعتمدت منذ عام 1943، في تغييب مفهوم دولة الرعاية وسياسات إعادة توزيع الدخل والثروة، رغم المحاولة اليتيمة لبناء دولة مؤسّسات ورعاية في عهد الرئيس فؤاد شهاب التي شكّلت تحدياً للميول الليبراليّة السائدة منذ الاستقلال. فضلاً عن اعتماد سياسات نيوليبراليّة في حقبة إعادة الإعمار بعد الحرب اللبنانيّة، بحيث أعيد التأكيد على مبدأ عدم تدخل الدولة في الاقتصاد بموجب اتفاق الطائف، تزامناً مع تبني تخفيضات ضريبيّة هائلة.

من أسباب انعدام المساواة المرتفعة: غياب الدولة مقابل تحكّم المصارف والعقارات بالاقتصاد
إذ خفّض الحدّ الأقصى للضرائب على أرباح الشركات إلى 10%، وفرضت ضريبة بنسبة 5% فقط على دخل رؤوس المال المنقولة، وأعفيت الأرباح الرأسماليّة المحصّلة من الأنشطة الماليّة والعقاريّة من أي ضريبة، وكذلك أعفيت الإيداعات المصرفيّة وسندات الخزينة منها. كذلك مُنح التجار العاملون في لبنان منطقتين حرّتين وإعفاءات ضريبيّة لمدّة 10 سنوات، وأعفيت الشركات العاملة في الجنوب من الضرائب عام 2000، وفرضت ضريبة الـTVA بنسبة 10% عام 2002، في حين لم تفرض أي ضرائب إستثنائيّة على المداخيل الرأسماليّة خلافاً لما تشهده حقبات ما بعد الحرب في كثير من البلدان.
3 ــــ نشوء أزمات اقتصاديّة كبرى في التسعينيات نتيجة المضاربات العقاريّة والماليّة التي أدّت إلى ارتفاع نسبة التضخّم حتى مستويات مفرطة، بما قلّص القدرة الشرائيّة للمداخيل الدنيا، فضلاً عن ارتفاع معدّلات الفائدة وترافقها مع تباطؤ نمو نصيب الفرد من الدخل الوطني، وهو واقع أفاد المصرفيين والمودعين بحسب تقرير للبنك الدولي. وهذا ما يؤكّده تقرير للأمم المتحدة صادر عام 2002، اذ أن 40% من الودائع موجودة في 0.6% من الحسابات المصرفيّة. ويضاف إلى ذلك، ارتفاع التضخم بين 2005 و2009 بما قلّص القدرة الشرائيّة لمداخيل أصحاب المهن الحرّة والأعمال الأقل ثراءً.
4 ــــ إضافة عنصر جديد فاقم انعدام المساواة تمثّل بتدفّق أكثر من مليون نازح سوري، يشكلون 30% من إجمالي السكان، ما أدّى إلى ارتفاع النمو السكاني بعد العام 2011 وبالتالي انخفاض نصيب الفرد من الدخل الوطني (علماً أن هذا العامل لا تظهر نتائجه في الدراسة كونها استندت إلى بيانات استطلاعات عام 2007 لتحديد توزّع الدخل).
* استُخدمت عبارة «الأعجوبة الاقتصادية اللبنانية» للمرة الأولى لوصف حقبة الازدهار الاقتصادي التي شهدها لبنان خلال الستينيات، ولكنها اليوم لا تشير إلى نمو اقتصادي فعلي، بل إلى ازدهار القطاعين المصرفي والعقاري على الرغم من انعدام الاستقرار السياسي.