منذ سنوات طويلة، لا يفوّت بعض المسؤولين عن قطاع البترول والغاز في لبنان مناسبة، او حتى بلا مناسبة، من دون الاشارة الى ان سياسة استثمار الثروة النفطية عندنا مستوحاة من «النموذج النروجي»، مع الاشارة الى نجاح التجربة النروجية في هذا المجال، وإنشاء هذا البلد صندوقاً سيادياً تجاوزت موجوداته 1000 مليار دولار.
الا ان المرء لا يحتاج لكثير من الخبرة او الوقت كي يدرك، بعد الاطلاع على حقيقة سياسة البترول والغاز في النروج، ان ما تم في لبنان لا يشبه ــــ لا من قريب ولا من بعيد ولا ابعد من البعيد ــــ «النموذج النروجي»، لا بل يعاكسه كليا، خصوصاً لجهة النقاط الجوهرية التالية:

1 ــــ الشفافية:

منذ تحديد مبادئ سياسة النروج البترولية وأهدافها، مطلع سبعينيات القرن الماضي، تم ترسيخ الشفافية من خلال حوار وطني عام وسيل من الدراسات والتقارير، كان للمجلس النيابي (Storting) دور محوري فيها. وكانت هذه الشفافية درعاً واقية ضد الأخطاء والفساد واستغلال السلطة لمآرب خاصة. اما في لبنان، فقد اقتصر دور المجلس النيابي على إصدار القانون البترولي 132/2010، بما يتضمنه من مبادئ أساسية عامة، قبل ان يستولي بعض الموظفين على صلاحيات السلطة التشريعية ويضعوا «مراسيم تطبيقية»، لا سيما المرسوم 43/2017، تغطي من الألف الى الياء كل التفاصيل القانونية والتقنية والمالية والاقتصادية والتنظيمية والبيئية... لصناعة البترول والغاز. وكله من دون علم السلطة التشريعية المختصة أو استشارتها، وتحت سرية لا تقل عن سرية أهم اسرار أمن الدولة. سرّية وصفها رئيس اللجنة البرلمانية للأشغال والنقل والطاقة محمد قباني، في آب 2016، بأنها «معيبة ومخجلة».
فلماذا خطفت من المجلس النيابي اللبناني صلاحيات تشريعية بديهية مارسها ولا يزال ممثلو الشعب النروجي وغيره؟ الجواب يكمن في الوسائل الملتوية التي لجأ اليها البعض لتحقيق أهداف لا علاقة لها بأهداف النروج او بالمصلحة العامة عندنا.

2 ــــ مشاركة الدولة:

على رأس ما سمي «الوصايا العشر» التي وضعها البرلمان النروجي عام 1971 أساساً للسياسة النفطية، تلك التي تنص على انه «يجب على الدولة ان تشارك على كل المستويات اللازمة، وان تساهم في تنسيق مصالح النروج لجهة تطوير صناعة نفطية متكاملة على الصعيدين الوطني والدولي». وانطلاقا من هذه التوصية، حُددت مشاركة الدولة، خلال المرحلة الاولى، بنحو 50% حسب ظروف كل اتفاق مع الشركات الاجنبية. اما في لبنان، فسارت الامور على عكس ذلك تماماً بعدما نصت المادة 5 من المرسوم 43/2017، بكل بساطة، على انه «لن يكون للدولة مشاركة في دورة التراخيص الاولى»!

3 ــــ انشاء شركة نفط وطنية:

وصية اخرى على جانب كبير من الاهمية قامت عليها سياسة النروج النفطية، هي الوصية رقم 8 التي جاء في نصها الحرفي: «سيتم انشاء شركة نفط وطنية تؤمن مصالح الحكومة بالوسائل الملائمة، بالتعاون مع الجهات الوطنية والاجنبية المختصة». وقد تم فعلاً، وعلى الفور، انشاء الشركة الوطنية «ستاتويل» عام 1972 وباشرت عملها الى جانب الادارة العامة للبترول التي اسندت اليها مهام الهيئة الناظمة. اما في لبنان، فلا يزال موضوع انشاء شركة نفط وطنية في مرحلة اقتراح قانون قدم للمجلس النيابي اواخر 2017.

4 ــــ تطور طبيعة وأهداف «ستاتويل» وفضيحة الرشوة في ايران:

نتيجة النمو السريع لشركة «ستاتويل» ونجاحها في السنوات العشرين الاولى من تأسيسها، حدث تطور استراتيجي عميق في طييعتها واهدافها. تم ذلك على مرحلتين، اولاهما عام 1990 عندما اعلن رئيسها آنذاك هرلد نورفيك بدء توسيع نشاطها من السوق المحلية الى الاسواق العالمية. والثانية بدأت في حزيران 2001 بعد اقرار خصخصة ثلث رأسمالها واعلان الحكومة النروجية ان الشركة «أصبحت تعمل وفق المعايير الكلاسيكية للربحية وتدار على هذا الاساس».
بعد هذا التطور النوعي، صارت «ستاتويل»، كأي شركة بترولية اخرى، تواجه في الاسواق العالمية منافسة شرسة من قبل بقية الشركات، مما لا يترك لها خيارا غير السعي لكسب اكثر ما يمكن من الارباح، خصوصاً في ما يتعلق بعقود التنقيب والانتاج، عبر أعلى عائد ممكن على استثماراتها (Internal Rate of Return). اضافة الى افضل الشروط الممكنة لجهة الاستقلالية في ادارة اعمالها وتحجيم دور الشركات الوطنية، او حتى الحؤول دون التعامل معها حيث تجد لذلك سبيلاً.
ولا شك في ان التحول في استراتيجية «ستاتويل» منذ 2001، وانخفاض مستوى رقابة السلطات النروجية عليها، وحدّة المنافسة مع الشركات العالمية الاخرى، كانت كلها عوامل ادت، لسوء الحظ، الى تورطها في عملية فساد كبرى في ايران عام 2003. وتم ذلك، بحسب تحقيقات الهيئة النروجية المختصة Okokrim، عبر دفع رشوة 15,2 مليون دولار لمهدي هاشمي رفسنجاني، نجل الرئيس السابق، للحصول على حقوق استغلال جزء من حقل غاز بارس الجنوبي الذي تتقاسمه ايران وقطر. وكانت النتيجة الحكم بالسجن عشر سنوات لرفسنجاني، وطرد بعض كبار المسؤولين في «ستاتويل»، من بينهم مدير العلاقات الدولية ريتشارد هوبرد، فضلا عن تغريم الشركة نحو ثلاثة ملايين دولار.
ولا يقل اهمية عن ذلك ان هذه الفضيحة التي كانت الاولى من نوعها في تاريخ «ستاتويل» كان لها وقع الصاعقة في النروج، اذ هزت السمعة الممتازة التي اكتسبتها الشركة خلال العقود الثلاثة السابقة والتي أعطت تعبير «النموذج النروجي» معناه الاصلي والصحيح. كما جعلت المسؤولين النروجيين اكثر حذرا في التعاطي مع الدول الاخرى. وقد تجلى هذا الحذر في لبنان بشكل خاص، عبر الاهتمام المتعدد الاوجه الذي يبديه هذا البلد تجاه الثروة النفطية الموعودة تحت المياه اللبنانية.
فمن جهة نالت «ستاتويل» التأهيل المسبق للحصول في لبنان على حقوق استكشاف وانتاج بصفة «مشغل»، بخاصة انها واحدة من بضع عشر شركات تملك الخبرة والمؤهلات اللازمة لذلك. لكنها، ايضاً، تنتمي الى بلد يقدم للبنان منذ نحو عشر سنوات الاستشارات لرسم سياسته النفطية، بما فيها الاطار القانوني والاحكام التشريعية والادارية والتنظيمية، مما وضعها في حرج نظرا لتضارب المصالح بين دور الاستشاري من جهة، ودور طالب حقوق بترولية وغازية من جهة ثانية. بهذا المعنى يمكن القول انها كانت تتحرك على مستويين متوازيين لا يمكن فصل احدهما عن الاخر: المستوى الحكومي ومستوى شركة تسيطر الدولة على ثلثي رأسمالها.
كان الامر كذلك حتى نشر «الاخبار»، في 13 الجاري، مقالاً للمهندس الجيولوجي العراقي/ النروجي فاروق القاسم (توضيحات وتعليقات لتيسير الحوار في قطاع البترول: فلنتأكد من وجود النفط اولا!)، اشار فيه إلى مساهمته في «مناقشة خطوط السياسة البترولية في لبنان»، وفي «تحويل السياسة النفطية الى تشريعات وتنظيمات ادارية، وتحضيرات اولية لجولات التراخيص»، لافتاً إلى «أن ما حققه لبنان من تحضيرات وتحصينات تشريعية وتنظيمية امر يستحق الاشادة». فبعد قراءة هذا المقال، يبدو ان تحرك النروج في هذا المجال يتم ليس فقط على صعيدي «ستاتويل» والجهات الحكومية (بما بين مسيريهما من تضارب في المصالح)، بل ايضا على صعيد طرف ثالث ليس من الواضح ما اذا كان يتصرف بصفته مسؤولاً حكومياً سابقاً، ام إستشارياً يعمل لحسابه الخاص، او كليهما. وفي انتظار ازالة هذا الالتباس، لا بد من الاشارة الى ان القاسم خبير جيولوجي محترم. الا ان هذا لا يمنع ضرورة ابراز الالتباسات والمغالطات التي وقع فيها حول قضية بحجم وبخطورة سبل استثمار الثروة النفطية الموعودة في لبنان.

5 ــــ جدل عقيم حول تاريخ مشاركة الدولة وإنشاء شركة وطنية:

بعد هدر سنوات في التردد والممانعة، ورغم اقتراب الموعد المعلن لتوقيع اتفاقيات استكشاف وانتاج في الرقعتين 4 و9 مع مجموعة «توتال/ ايني/ نوفاتك»، لا يزال الجدل العقيم دائراً حول تاريخ انشاء شركة نفط وطنية، ومبدأ وتاريخ مشاركتها في الانشطة البترولية. وتقول النظرية السائدة لدى بعض المسؤولين ان انشاء شركة بترولية واحتمال دخولها شريكاً في الاتفاقيات البترولية لا يمكن النظر فيه الا بعد تحقيق «اكتشافات واعدة». ولحسن الحظ، فإن مشروع قانون انشاء شركة وطنية لبنانية، الذي قدم مؤخرا للمجلس النيابي، جاء في الوقت المناسب ليضع حداً لهذا الجدل عبر المادة 8 التي تنص على حق دخول الدولة شريكاً في كل الاتفاقيات البترولية، بما فيها تلك التي وُقعت قبل تاريخ انشاء الشركة.
في هذا الظرف بالذات، أكد على ضرورة «الحوار»، الذي نادى به كثيرون قبله، وعلى ضرورة «التأكد من وجود النفط اولا!». وهو كلام يكاد يكون نسخة طبق الاصل (او اصلا طبق النسخة) لما سبق وكرره رئيس هيئة البترول السابق حول امكانية انشاء شركة وطنية ودخولها كشريك بعد حصول اكتشافات واعدة. الا انه لم يذهب الى الحد الذي تجرأ وتجاوزه هذا الاخير بالقول ان الاتفاق الذي يمنح بمرسوم يمكن تعديله بمرسوم آخر!
والسيد القاسم لا يجهل، بالطبع، ان «ستاتويل» بدأت عملها عام 1972 في مناطق من بحر الشمال تفصلها مسافات طويلة عن حقل ايكوفيسك الذي اكتشفته «فيليبس»، وان مساحة الجرف القاري النروجي لا تقل عن 2,140,000 كم2 اي 30 مرة اوسع من مجموع مساحة جزء حوض بحر شرقي المتوسط المحيط بالمياه اللبنانية، وما يقارب 100 مرة مجموع المنطقة الاقتصادية الخالصة التابعة للبنان، التي تبدو كبحيرة صغيرة مقارنة بالقسم النروجي من بحر الشمال. الاهم من ذلك، انه حصل حتى الان اكتشاف ما لا يقل عن عشرة حقول غاز في اسرائيل وغزة وقبرص، اي على «مرمى حجر» من المياه اللبنانية، منها اثنان ملاصقان للجزء الذي يحاول العدو الاسرائيلي اغتصابه من المياه التابعة للبنان. لا بل ان واحدا منهما يمتد على الارجح الى ما تحت المياه اللبنانبة. فالى متى يجب ان ينتظر لبنان كي يبدأ بالتحرك!؟
ولا شك في أن السيد القاسم في موقع مميز للإجابة على التساؤلات حول النقاط الجوهرية التالية التي ذكرها (او سها عن ذكرها) في مقاله في «الاخبار»:
ــــ هل سمح بعض موظفي وزارة البترول في اوسلو لانفسهم بصياغة مراسيم تتضمن كل تفاصيل التشريع البترولي من دون علم المجلس النيابي، او طردوا الدولة برمتها من الانشطة البترولية، او زوّروا غيّروا حرفاً واحداً من «الوصايا العشر» بايحاء من بعض مجهولي الهوية؟
ــــ هل اقدمت السلطات النروجية المختصة على تأهيل شركات صورية اسسها افراد بحفنة من الدولارات، في هونغ كونغ وغيرها، للحصول على حقوق استكشاف وانتاج؟
ــــ ما هي مبررات تحديد كل مكونات حصة الدولة من الارباح في لبنان دون المعايير المطبقة في العالم، منها على سبيل المثال النروج: اتاوة 4% لا غير على الغاز في لبنان، مقابل 12,5% في النروج عند انطلاق عمل «ستاتويل» وحصة دولة من الارباح لا تتجاوز 47% في لبنان خلال سنوات الانتاج الاولى، مقابل ما لا يقل عن 85% في النروج؟
ــــ هل يوجد في معجم اللغة النروجية كلمة تعني ما يسمى في لبنان «محاصصة»؟
ــــ اذا حصل في النروج جزء زهيد من التجاوزات والسمسرات التي تحصل عندنا، فهل يوجد في هذا البلد شيء اسمه المساءلة او المحاسبة؟
ــــ اخيراً لا آخراً، هل توجد في النروج اعتراضات او تحفظات ضد قيام «ستاتويل» وعملها، من نوع الاعتراضات والتحفظات المفاجئة التي يبديها المهندس القاسم تجاه انشاء شركة نفط وطنية في لبنان؟ مع العلم ان الحجج التي يعرب عنها هي نفسها التي ما زالت الشركات البترولية العالمية تكررها منذ القرن الماضي ضد انشاء وتطوير شركات وطنية، بدءاً بشركة البترول الفرنسية، و«ايني» الايطالية، و«ربسول» الاسبانية، و«مول» النمساوية، مرورا بالشركات البترولية الوطنية التي نعرفها اليوم في كل البلدان العربية، والتي تشكل العامود الفقري للاقتصاد الوطني، من دون ان ننسى الدول الاخرى في آسيا، وأميركا اللاتينية وافريقيا.
ونظرا لما يستحقه السيد القاسم من تقدير لخبرته وتجربته في علم الجيولوجيا، يبدو من المفيد، بغية توضيح الالتباسات القائمة، ان يدعى للمشاركة في حوار صريح على احدى شاشات التلفزيون الوطنية.
* خبير بترولي، اسس «المركز العربي للدراسات البترولية» وترأسه بين 1965 و2012. عمل مستشاراً بترولي لعدد من الدول العربية وغيرها، وساهم في حل النزاع الذي نشب عام 1973 بين العراق وسوريا حول رسوم مرور البترول العراقي من كركوك الى مينائي بانياس وطرابلس.