جيء على ذِكر «إجازة الأبوّة» في مجلس النوّاب، قبل نحو أربعة أعوام، فعلّق رئيس المجلس ممازحاً: «شو بدنا نخلّف كمان!». تلك الإجازة غير مألوفة شرقيّاً. لا مكان لعاطفة تستبدّ بالآباء في «النظام الأبويّ»... فتكسره أو تعيق دوره. هذه حكاية شائكة. عمّا قريب سيكون المجلس على موعد مع هذه المسألة، لبحث إقرارها، بعدما وقّع رئيس الجمهوريّة مرسوم الإحالة.
خرج مشروع القانون أولاً مِن الحكومة، عبر وزير الدولة لشؤون المرأة، بإضافة مادّة إلى قانون العمل، ونَصّها: «يَحقّ للأجير، بالإضافة إلى إجازته السنويّة، إجازة أبوّة لمدّة ثلاثة أيّام متواصلة وبأجر كامل إذا رُزِق مولوداً. (وذلك) ضمن فترة شهرين على الأكثر مِن تاريخ الوضع». ثلاثة أيّام فقط! هناك مَن قال، في معرض «تربيح الجميل» للمطالبين بأيّام أكثر، إنّ هذا جيّد الآن، وبالكاد يُقدر عليه، وبالتالي «اضحكوا بعبّكم». حتّى وزير شؤون المرأة، جان أوغاسبيان، وهو صاحب الطرح، لم يطمح بداية إلى أكثر مِن خمسة أيّام. استقرّ أخيراً على ثلاثة فقط. سبب تراجعه هو اعتراض «الكلّ» في الحكومة، بحجّة أن «العُطل كثيرة في لبنان». كأن الاقتصاد سينهار بإضافة يومي عطلة! أو كأنّ الانتاجيّة «مقتّلة بعضها» بين الموظفين والأجراء! في حين أن بعض دول العالم، التي تنظر إلى الأب على أنّه صاحب عاطفة طبيعيّة، وأن وليده وعائلته بحاجة إليه، تصل مدّة إجازة الأبوّة فيها إلى أكثر مِن عام. غريب، كيف لا يتضرّر اقتصاد تلك الدول!

الإجازة عالميّاً

يُحكى دوماً عن «اللغز الإسكندنافي». ما حكاية تلك الأقوام «الأكثر سعادة» في العالم؟ ربّما هنا أحد جوانب فكّ ذاك اللغز. في السويد تصل إجازة الأبوّة إلى 480 يوماً. يُجوز للأم والأب أن يتقاسما هذه المدّة مناصفة. المسألة، هناك، ليست لا تنحصر في الآلام الجسديّة للأم الواضعة. هذه يُمكن أن تقوم مِنها، مع رعاية الرضيع الأوليّة، في ثلاثة أشهر. المسألة في «الأسرة». في سلامة هذه الحلقة الاجتماعيّة التي تعني، في المحصّلة، سلامة المجتمع. أكثر مِن ذلك، يحقّ هناك للآباء العمل لساعات أقل إذا كان لديهم أبناء دون ثمانية أعوام. والحكومة، هناك، تدعم ماليّاً حضانات ما قبل مرحلة المدرسة، ويكون الدعم الأكبر مِن نصيب العائلات التي تتقاضى أجوراً أقل. هكذا تكون الدروب ميسّرة لجعل الطفل «منتجاً أفضل». الطفل، كمواطن، كفرد مستقل في المجتمع غداً، لا كمجرّد «كومة لحم» تحتاج الى الطعام والشراب.

سيكون مجلس النوّاب على موعد لمناقشة قانون إجازة الأبوّة المُحدّدة بثلاثة أيّام


في النمسا، تصل الإجازة هذه، بالتقاسم بين الأم والأب، إلى حدود العامين! هنا نقارب حدود الأعاجيب. تحصل الأسرة على منحة شهريّة لرعاية الطفل الواحد تصل إلى 200 يورو (تستمر إلى بلوغ الابن 18 عاماً). رئيسة وزراء نيوزيلندا، جاسيندا أردرن، أعلنت أخيراً أنّها حامل. قبل ذلك كانت، في مشروعها، أعلنت عزمها تمديد إجازة الأمومة، ومثلها إجازة الأبوّة، مِن 18 أسبوعاً إلى 26 أسبوعاً. في بريطانيا، بحسب تقرير نشرته «هيئة الإذاعة البريطانيّة» نهاية العام الماضي، فإنّ «الآباء الذين يعملون يُمكنهم الاستفادة من إجازة تصل إلى 50 أسبوعاً يتشاركها الوالدان» (ضمن برنامج مُعيّن يُحدّد حجم الراتب). إلى جانب ذلك، يحصل الأهل على مبلغ 2000 جنيه استرليني، سنويّاً، مقابل كلّ طفل عبر «مركز الرعاية». قبل ثمانية أعوام، في بريطانيا، كانت إجازة الأبوّة (الأساسيّة الثابتة) نحو أسبوعين، وآنذاك، بحسب إحصائيّة، تبيّن وجود 600 ألف مِن الآباء «يرعون أطفالهم بشكل كامل» (هذا بعيداً عن حالات الانفصال الزوجي). في المانيا، يأخذ الآباء إجازة أبوّة تصل إلى 14 شهراً. يحصل الوالد أو الوالدة، في حال التوقّف عن العمل بعد ولادة طفل جديد، على مبلغ مالي يصل كحد أقصى إلى 1800 يورو شهريّاً. تُنفق الدولة على هذا البرنامج 5 مليارات يورو سنويّاً. تحث الحكومة الآباء، الذين يعودون إلى عملهم بعد شهري عطلة، على أخذ العطلة كاملة (توجّه للتشجيع على الإنجاب). في فرنسا، قبل أن تُقرّ إصلاحات عام 2014، كانت إجازة الأبوّة تصل إلى 6 أشهر، أمّا اليوم، مع القانون الجديد، فأصبح بإمكان الأم والأب تجديد المدّة لتصل إلى عام. أمّا في العائلات ذات الطفلين فتصل العطلة، قسمة بين الوالدين، إلى ثلاث سنوات (وفق شروط معيّنة). في إيران، إجازة الأب تصل إلى أسبوعين، أمّا الأم فإجازتها تسعة أشهر. عربيّاً، مِن المتوقّع أن يلتحق لبنان، بعد إقرار الإجازة في البرلمان، بدول مثل السعودية والأردن والمغرب، التي تحدد للأب إجازة الأيّام الثلاثة. بعض الدول العربيّة لا تزال إلى الآن بلا إجازة أبوّة تماماً.

الأب الحائر

لم يستطع كمال، المواطن اللبناني الصالح، أن يقضي إلى جانب زوجته يوم وضعها إلا يوم وضعها. رأى ابنته الوليدة، لكنه في اليوم التالي كان في عمله، فيما زوجته كانت لا تزال في المستشفى. لم يسمح له «ربّ العمل» بإجازة، ولو على حسابه، لأن يعيش لحظته السعيدة ــــ العصيبة. إن عاند فسيُطرَد. صاحب العمل، وبعض العاملين أيضاً، سخروا مِنه لإصراره على إجازة: «شو كأنّك إنت يلي مخلّف!». عمله آنذاك كان في ذروة الموسم (الصيف). بعيداً عن الحالة النفسيّة للأب في تلك اللحظة، ومشاعر أنّه أصبح أباً، وحاجته لاستيعاب الجديد في حياته، إلا أنّ كمال لم يكن يطمح بأكثر مِن تقطيع مرحلة وجود زوجته في المستشفى. هذه لا تحصل مع جميع العاملين في لبنان، هذا صحيح، لكنّها تحصل. أمّا عن العامل باليوميّة، أو الذي إذا لم يعمل لا يأكل، فهذه مأساة أخرى. ليس مستغرباً ما قاله ذاك الشخص، ضمن تقرير تلفزيوني، عن أنّ الرجل «لا يحق له بعطلة، لأن عليه أن يعمل، وإذا لم يعمل لا يأكل لا هو ولا زوجته ولا طفله». شخص آخر لم يفهم فكرة السؤال المطروح عليه أصلاً: «عن شو عم تحكي؟». هذا يلخص المشهد.
في تقرير نشرته «دويتشيه فيليه» الألمانيّة، قبل ثلاثة أعوام، أشير إلى أعراض حمل تظهر عند بعض الرجال في فترة حمل زوجاتهم. بحسب دراسات عدّة، فإن بعض الرجال تنتفخ بطونهم، وبعضهم يعيش أعراض القيء والغثيان، وأحياناً انقباضات، نتيجة تغيّرات هرمونيّة. تسمى هذه الحالة «متلازمة كوفاد» أو «الحمل التعاطفي» أو «نفاس البعل». يصاب ربع الرجال تقريباً بهذه المتلازمة، بحسب تقرير نشرته مجلة «إلترن» الألمانيّة. دراسات أخرى تشير إلى انخفاض إفراز هرمون الذكورة (تستوستيرون) في أجساد الذكور الذين ينتظرون مولوداً، فيصل الانخفاض هذا إلى حدود الثلاثين في المئة، ما يجعل الأب أكثر وداعة وأقل ميلاً إلى العنف والقسوة. بعض المختصّين يفسّرون الأمر على أنّه إعداد بيولوجي للأب للتعامل بحنو ورقّة مع مولوده الجديد. أكثر مِن ذلك، ترتفع في جسد الذكر، الذي ينتظر مولوداً وبعد الولادة أيضاً، نسبة هرمون «الأوكسيتوسين» (هرمون الحب). هذا يساعد على جعل علاقته بطفله أكثر حميمية. في وثائقي لأخصائية علم نفس الأطفال، لافيرن انتروبوس (عرضته بي بي سي)، شرح مسهب لهذه التغيّرات، ومنها، وهذا الأغرب، أنّ أدمغة الآباء تزيد مِن إفراز هرمون «برولاكتين» المعروف، عند الأمهات، بوظيفته في عملية الرضاعة! هكذا، الأب ليس مجرّد «حصّالة مال» للعائلة. كلّ ما سلف يعني أنّه يحتاج، حتماً، إلى «إجازة أبوّة» أكثر مِن ثلاثة أيّام.