منذ نحو ثمانية أشهر، بدأت بلدية بيروت بعملية «إعادة تأهيل» شارع جان دارك في منطقة راس بيروت، الحمرا. من المفرح أن تقوم بلدية بيروت بتحسين طرقات المدينة وأرصفتها، لتصبح صديقة للمشاة وذوي الاحتياجات الخاصة، وليصبح المجال العام أكثر راحة. لكن ما يحصل في شارع جان دارك يختلف تماماً عن مبادرة لمؤسسات الدولة: بمليون ونصف مليون دولار قرّرت بلدية بيروت بأن شارع بطول أقل من كيلومتر واحد.
هل هذا هو الشارع البيروتي الذي يحتاج إلى تغيير وتحسين؟ في الحقيقة، القرار لا يعود لبلدية بيروت، إنّما للجامعة الأميركية في بيروت، عبر «مبادرة حسن الجوار»، التي طرحت المشروع على البلدية وصمّمته. قبلت البلدية بصدر واسع أن تنفّذ مخطّطات «الأميركية». والمشكلة تبدأ هنا: من القرار. مال دافعي الضرائب في بيروت، يذهب ليس حيث يقرّرون هنّ وهم أو بلديتهم نيابة عنهم، بل مؤسسة خاصة. مؤسسة من أكبر اللاعبين الاقتصاديين والسياسيين في منطقة رأس بيروت. من الأسهل أن نرى العملية بهذه الطريقة: الجامعة الأميركية تريد تحسين الشارع الموازي لمدخلها الرئيسي، وبلدية بيروت تموّل. لم لا؟
لم يتطرّق أحد لقانون منع التدخين داخل حرم الجامعة الأميركية، الذي تمّ تطبيقه هذا الشهر مع بداية الفصل. بمعنى أن حرم الجامعة الأميركية بكامله، من مبانيه ومساحاته الخضراء أصبح مكاناً خالياً من التدخين، ممّا يتطلّب من المدخنين، طلّاباً وموظّفين وأساتذة، الخروج من الحرم للتدخين. وبينما تؤمّن الجامعة مساحة خارج بوابات الجامعة للتدخين، إلّا أن شارع جان دارك الذي يمتدّ مباشرة خارج الباب الرئيسي للجامعة، يشكّل أفضل مكان للعدد الكبير من المدخنين المتوقع استخدامهم للمكان. أي أن الجامعة طرحت تطوير هذا الشارع بالذات، ودوناً عن كل الشوارع الأخرى المحيطة بها، لأنه أولاً يخدم طلّاب الجامعة من حيث المطاعم والمكتبات وغيرها من جهة، ولأنه أيضاً الأقرب لبوابة الجامعة من حيث تأمين مساحة للمدخنين. وهم لم يستطيعوا تنفيذ هذه الفكرة في شارع بلس، بسبب المشاكل والتعقيدات مع أصحاب المحلات، خاصة المطاعم.
مليون ونصف مليون دولار، رقم كبير. يدفع من خزينة «رسمية»، من ميزانية بلدية لا تعالج «الأساسيات»، في مدينة أصبحت كل يوم غير قابلة للعيش. التغيير لن يمسّ سوى قلّة قليلة من «سكّان راس بيروت» الذين يعانون من مشاكل مختلفة، لم يشعر بها حتى العاملون على هذا المشروع.

أجمع أصحاب المحال القديمة
في الشارع بأن التحسين
هذا لا يتوجّه لهم

لكن ماذا عن سكّان الشارع ومن حوله؟ تغيّر الشارع طبقياً وديمغرافياً. لم يعد هناك «حيّ». فمواصفات الـ«حيّ»، والعلاقات الاجتماعية والعائلات التي كانت تعيش هنا، اختفت باختفاء النسيج العمراني القديم، بقدوم المطوّرين وهدم المباني القديمة وبناء الأبراج والمباني الجديدة في الشارع (نحو 7 مباني جديدة\ أبراج في الشارع، وعقارين هائلي الحجم كان عليهما عدد من القصور والمباني التراثية). الطريف في الأمر، أن معماريين ومعماريات وأنتروبولوجيين يطرحون هذا المشروع، من دون أن يكونوا على علم بما سيؤثّر عليه هذا التطوير من جنون في أسعار الشقق والعقارات في الشارع، ممّا سيزيد من موجة الإحلال الطبقي العمراني، القوية أصلاً.
بالإضافة إلى هذه المشاكل كلّها، ماذا يستفيد أهل رأس بيروت وشارع جان دارك من هذا التحسين بالذات؟
أجمع أصحاب المحال القديمة في الشارع بأن التحسين هذا لا يتوجّه لهم، وبأن زبائنهم، على العكس، يستصعبون المجيء بسبب غياب أماكن لركن سياراتهم. التحسين يستهدف طلّاب الجامعة وليس أهل المنطقة. ينبئ هذا بتغيير إضافي متوقع في الشارع على مستوى طبيعة الخدمات: استبدال ما تبقّى من المحال القديمة التي تعتمد على زبائن من سكان المنطقة، أي تغيير وجهة استخدام الشارع land use لتصبح محال تقدم خدمات محددة لطلاب «الأميركية». أي أن الـraison d’etre، سبب وجود الشارع بحد ذاته، سيكون لخدمة الجامعة. في الوقت نفسه الذي كان العمّال يرصفون الشارع الجديد، تمّت إزالة أربعة أبنية تراثية من أقدم ما كان موجوداً في هذا الشارع. من الأكثر «حساسية»، ربّما، لمشاكل سكّان المنطقة وهمومهم، أن يبقوا في المنطقة، وألّا تتغيّر المنطقة بهذا الشكل الدرامي. وأن يكون هناك نسيج عمراني اجتماعي يسمح لنا بتسمية الحي حياً. كان من الأفضل، ربّما، أن تبحث البلدية في إمكانية المحافظة على هذه البيوت، أو استملاكها؟ لكن ذلك لن يعود بالمنفعة على الجامعة وموظّفيها وطلابها وأساتذتها.
يبقى السؤال الأساسي: لماذا موّلت البلدية المشروع؟ الجامعة الأميركية هي التي اقترحته وهي المستفيد الأول منه. لماذا لا تموّله بنفسها وتظهر قوة «اهتمامها» الحقيقي بالجوار وبكل ما تقوله في مشروعها؟

النيوليبرالية والسلطة

تقول منى حلّاق، مديرة مبادرة «حسن الجوار»، في مقابلة لها أنه «يوجد لدينا واجب أدبي تجاه هذه المنطقة، يتمثل بأن تساهم الجامعة بتحسين المعيشة فيها وتحسين العمران وحل مشاكلها البيئية، وحل مشاكلها من جهة أزمة السير لأن هناك نقصاً بمواقف السيارات، وحل مشكلة النفايات في ما يتعلق بإعادة التدوير، وحل مشكلة تفريغ المنطقة من سكانها، إذ أن الهجمة العمرانية (التي توقفت الآن نوعاً ما) على مدى العشرين سنة الماضية أجبرت أهل المنطقة، خصوصاً الذين كانوا يسكنون في بيوت قديمة، على ترك بيوتهم لتُبنى مكانها أبراج يسكن فيها ذوو الدخل المرتفع، وبذلك فقدت المنطقة أيضاً الكثير من مبانيها الأثرية. كما نهتم بمبادرات لتشجير المنطقة، وتشجيع الناس على الزرع والتشجير في الممرات والأرصفة والشرفات». هذا «الشعور بالمسؤولية»، هو الذي يضع الأفراد في موقع الدولة، خاصةً عندما يتجاوز «الشعور» ويصير تطبيقاً، كما في حالة الجامعة الأميركية. الجامعة تخطط، والبلدية تموّل. في الواقع، المساحات العامة والمجال العام ملك للشعب عبر الدولة، وأي «مبادرة» للقطاع الخاص تُعتبر بمثابة تعدٍّ. وذلك ببساطة، لأنه لا يمكن للقطاع الخاص أن يتدخّل إلّا لمصلحته، أو لمصلحة مجموعة على حساب أخرى. أما في حالة «الشارع النموذجي» (والتسمية في غاية الغطرسة)، فالمسؤولية المدينية التي تحاول المبادرة الكلام عنها دائماً، ويحاول هذا المشروع بالذات إظهارها، تبدو وكأنها مسؤولية تتعدّى المصلحة الخاصة بالجامعة، وتتمدّد إلى أن تكون مصلحة السكان، والمصلحة العامّة في الحفاظ على الموروث الثقافي. وهذا ما تشرحه وندي لارنر، عندما تتحدث عن المشاريع النيوليبرالية التي «تعمل كمادّة محفّزة لتدمير خلّاق للمساحات السياسية الاقتصادية. والتدمير الخلّاق هذا، يستعمل هنا لوصف مسارات التغيير المؤسساتي ــ المكاني غير العادل جغرافياً، والرجعي اجتماعياً، والمتقلّب سياسياً، والذي يتبلور في ظل الظروف النيوليبرالية». وبينما فشلت هذه المشاريع في تقديم أي بديل، فهي بالتأكيد نجحت بإعادة صنع البنى التحتية المؤسساتية التي يعتمد عليها رأس المال.
يجب أن يكون واضحاً، أن موروث الناس الثقافي ملك عام، تماماً كما الشوارع. وفيما تتقاعس مؤسسات الدولة عن القيام بمهامها، لا يكون الحل باللجوء إلى القطاع الخاص، بل أيضاً لا تكون مبادرات القطاع الخاص سوى تعدٍّ واحتلال لمراكز القرار. إن أرادت الجامعة الأميركية أن تفعل شيئاً، فلتقم به ضمن حدود «ملكيتها المقدسة». على الأقل هذا ما يقوله جيران «الحي النموذجي». إشكالية أن تحتلّ الجامعة الاميركية، وهي أصلاً لاعب كما ذكرنا قوي اقتصادياً وثقافياً، دوراً في صياغة السياسات المدينية، ليست سوى إشكالية الشكل النيوليبرالي للرأسمالية: أن تأخذ المؤسسات المهيمنة hegemonic أدواراً ليست لها، وخاصة أدواراً قيادية في الحياة الاجتماعية والسياسية. هكذا يتم تقليص دور بلدية بيروت لتكون مموّلاً للمشروع ومنفّذاً لخرائط مهندسي الأميركية.

يبقى السؤال الأساسي: لماذا موّلت البلدية المشروع؟ الجامعة الأميركية هي التي اقترحته وهي المستفيد الأول منه

تقول حلّاق إن «أي مشكلة بالمنطقة نعود بها للجامعة ونلتقي بالأقسام التي تُعنى بحل هذه المشكلة، فنطرح المشكلة على هذه الأقسام، إذ يهمنا أن يكون البحث والعمل متعدد الاختصاصات لكي تعمل الجامعة بكلياتها لحل مشاكل المنطقة وليس عبر قسم معين». وهنا، يظهر في خطاب المسؤولين والمعنيين بالمبادرة ككل، بتر عميق في نظرتهم للمنطقة والجامعة. فالمنطقة المحيطة هي منطقة «أهالي»، والجامعة هي مكان «إنتاج المعرفة». بطريقة فوكوية (نسبة لميشال فوكو) بامتياز، وتماماً كما يفعل المستعمرون المستشرقون، يقدّمون المعرفة والوعي والحلول لمشاكل السكان الأصليين البسيطة. من المثير النظر إلى موازين القوى الموجودة في هذه المبادرة، من جامعة أميركية و«مثقفيها» من جهة، و«سكان» ودولة من جهة أخرى. الجامعة تغدق عليهم بعلمها ومعرفتها وخبراتها المتراكمة، والسكان والدولة يموّلون مشروعاً ظنّاً منهم بأنه يخدمهم، غير أنه يعود بالمنفعة بالدرجة الأولى على الجامعة. وفي تفاصيل المشاريع «التنموية» ومبادرات التحسين، أكثر ممّا تراه العين. فالموضوع لا يتعلّق بالشكل فقط، بل هو في صميم حقوق المواطنات والمواطنين، من حيث قدرة الوصول إلى المعلومات والمشاركة بأخذ القرار. كما يتعلّق بالمستفيدات والمستفيدين: من هي المجموعة التي تستفيد أكثر من المشروع؟ ما هو مواصفاتها الطبقية والجندرية والعرقية والعمرية والمناطقية؟ ومن هي المجموعة التي يتمّ التضحية بها وبمصالحها؟ وهل يمكننا، فجأة، ولأجل عيون الجامعة الأميركية في بيروت، أن نفك ارتباط المدينة بالاقتصاد السياسي؟
من الضروري أيضاً أن نعرف بأن مشاريع التحسين أو التطوير أو تجميل منطقة ما، يمكن أن تعود بكارثة اقتصادية عليها: من المتوقّع أن تدفع هذه المشاريع لزيادة أسعار العقارات والإيجارات ممّا يساهم في الإحلال الطبقي العمراني. لذا فإن مشاريع التحسين والتطوير الكبيرة، غالباً ما تترافق مع سياسات ضبط الإيجارات وأسعار العقارات. في المقابل، فمن لا يقوم بذلك، من سياسيين أو مخططين مدينيين، مسؤولون عمّا سيحصل للمنطقة. هم المسؤولون الأساسيون عن تهجير أهلها والتغيير العمراني الديمغرافي الذي سيطرأ عليها، لأننا من المفروض أن نتعلّم ممّا سبق.
المشروع «النموذجي» ــ الذي لن يعود بالفائدة الكبرى ــ مقارنة مع القيمة التي تمّ صرفها عليه، سيساهم في تحويل المنطقة أكثر فأكثر إلى حزام خادم لحاجات الجامعة. سيدفع باتجاه زيادة الإحلال الطبقي العمراني. وسيكرّس العلاقة بين الجامعة ومحيطها بديناميكية من يمتلك السلطة والمعرفة والوعي، ويقرّر مرة كل سنة أن يغدق بالقليل منها... على من «حرمهم الله»!




ترميم الذاكرة بقطع الـ«ليغو»

متابعة صفحة «مبادرة حسن الجوار» AUB neighborhood initiative على فايسبوك جديرة بنقل نظرة المسؤولين عن هذه المبادرة، لمشاكل الأحياء المحيطة بالجامعة الأميركية. من مشاريع إعادة التدوير، إلى تشجير السطوح، إلى مكتبات الشارع ومشروع لترميم الأجزاء المدمّرة من الرصيف بقطع الـ«ليغو»، مبادرات صغيرة بسيطة تطرح كأنها «الحل». لكنها حلول الزوار، حلول من يمرّ بالشارع وليس من يعيش أو يعمل فيه. تبدو المبادرة، وبالرغم من الأبحاث والنقاشات المفترض أنها قامت بها مع السكّان، تبدو كمن يحلّ مشاكل تراها هي، لا مشاكل أهل المنطقة من تغيير ديمغرافي طبقي عمراني. من المفيد التعلم من تجارب أخرى، لكن من المضحك نسخ ما يحصل في مدن لا تشبهنا، ذات مشاكل مختلفة عن مشاكلنا.




هيمنة الدولة على المجال العام؟

بينما تتقاعس الدولة عن لعب أحد أهم أدوارها بطرح استراتيجيات ضبط وتنظيم النمو غير العادل للمناطق، تأخذ دورين آخرين: تطوير الشوارع التي تجذب السواح والبورجوازية، وتنفيذ ما يُعرف بالهندسة الاجتماعية. وأوضح مثال على هذا، قول رئيس بلدية بيروت الحالي، جمال عيتاني، إنه يطمح «لأن تكون شوارع بلس وغورو (الجميزة) مثل هذا الشارع النموذجي». لا ضرورة لأن يذكر شوارع بربور أو البسطة، هذه شوارع الفقراء ولن يستفيد أحد من تغييرها. و«الشارع النموذجي» هذا كما يسمّيه رئيس بلدية بيروت، هو مقدّمة للمواطن النموذجي. الدولة يجب أن تقول للمواطنات والمواطنين كيف يجب أن يتصرّفوا في المجال العام، ما المسموح وما الممنوع: المكان ينتج الإنسان وتصرّفاته ويوجّهها.