لا أثر للكلاب المدجّنة ولا لمقتنيها بعد «الكونكورد» بقليل، في آخر فردان. لكن «بقاياهما» حاضرة في الشارع «الموبوء»، الذي ينتهي صعوداً بمنطقة «الظريف» ونزولاً إلى الحمرا. المارة، «المياومون» من المارة، حفظوا «مواقع ترسّب بقايا الكلاب أيضاً». وهي خبرة اكتسبوها مع الوقت: يحملون الروائح إلى أعمالهم في الشارع القريب روائح كريهة، وتعلق رواسب الكلاب في نِعال أحذيتهم.
على الرصيف المواجه للمدرسة التابعة للمقاصد الإسلامية، تمشي سيدتان بحذر شديد، في محاولة منهما لتفادي أكوام البقايا المتناثرة في كل مكان. وعلى خطاهما، نعبر بين أسراب الذباب المتحملقة في «فلك» البقايا، كمن يمشي في «حقل ألغام» قد تنفجر بين قدميه في أية لحظة: الكمّامات ضرورية.
على امتداد الرصيف نفسه، ثمة عامل نظافة أيضاً. لا يبدو هو الآخر سعيداً بمخلّفات الكلاب، ولا بالمشهد المديني المشوّه الذي يشي بسلوكيات سكان العاصمة الفاضحة، وبلامبالاتهم تجاه الحيز العام. لكنه لا يبدي أي اعتراض، ويطلعنا ممازحاً على خطة ابتدعها لـ«التحايل» على المخلفات الجديدة، تلك التي تصعب إزالتها لاحتمال «التصاقها بالمِكنسة». وهي واقعة «الله لا يجربها لحدا»، كما يقول. تنطوي الخطة على ترك المخلفات الحديثة «ليومين أو ثلاثة» ريثما تجف. ليتخلص منها في نهاية المطاف. في هذه الأثناء، لكم الله أيها العابرون، عليكم بالقفز، كما لو أنكم في برنامج «الحصن» الشهير. وفي أي حال، الحيلة، وفق العامل، سرعان ما أثبتت فشلها، إذ أن إزالة البقايا لا يعني أن الترسبات والبقع المتلاحمة في جوف الرصيف قابلة للتحلّل والاندثار، أو أن الروائح الناجمة عن تكاثر «القنابل» ستختفي على الفور. وهي للمناسبة، الرائحة نفسها التي باتت تلازم العديد من الأرصفة في العاصمة، بعدما «تمددت» أخيراً عادة اقتناء الكلاب. فالظاهرة الكريهة التي نتحدث عنها هنا، لا يبدو أنها تنحصر فقط في حدود الشارع البيروتي. كما أنها باتت تضفي على المشهد المديني، المشوه في الأساس، تشويهاً بصرياً جديداً، وسط غياب تام لأي مادة قانونية تُلزم مقتني الكلاب بإزالة مخلفاتها، تبعاً للأعراف والقوانين السائدة في المجتمعات المنظمة. والحديث هنا دائماً عن «الوسخ»، وعن «والوسخين»، وليس عن الكلاب نفسها.
ننتقل إلى شارع البطركية. لم ينجُ بدوره، وتحديداً لناحية الرصيف المحاذي لـ«المدرسة البطركية» حيث يبدو مشهد القطط المتناحرة لطيفاً من بعيد. «يطير الحَمام، يحط الحَمام»...

إن كانت ليست وزارة الزراعة هي الجهة التي يجب أن تتعامل مع المسألة، فمن يتعامل معها؟
والقطط ما زالت تتناحر على امتداد الرصيف الذي نجا ــ حتى الآن ــ من «سطوة» الحواجز الاسمنتية، رغم التغييرات التي شقّت أرصفة شارع البطركية غير مرة. نحن أمام حيّ بيروتي «مثالي» إذاً، تعبق في أرجائه «رائحة الشمس والبحر والدخان والليمون» كما تقول قصيدة محمود درويش الشهيرة. لا أثر للكلاب هنا أيضاً، ولا للافتات «no poop and pee»، تلك التي تبين أنها مثبتة في بعض أحياء العاصمة دوناً عن غيرها، لأسباب لم يستطع عضو مجلس بلدية بيروت، هاغوب ترزيان، أن يحددها في البداية. لكنه عاد وأكد وجود بعض اللافتات التوجيهية «مطرح ما في مساحات عامة»، معدداً لنا الشوارع الممتدة بين «مونو والأشرفية والروشة»، علماً أن البوسترات الصغيرة المثبتة على امتداد الأرصفة المحيطة بالطريق البحري لا تتجاوز الخمسة. طيب. ماذا عن الشوارع الأخرى والمساحات العامة المنضوية في نطاق عمل البلدية المستثناة من اللوحات التوعوية؟ لماذا تُهمَل أرصفة عائشة بكار والبسطة، مثلاً، على حساب غيرها من الشوارع المصنفة كأولوية في ذهنية العمل البلدي؟ «Cava. منقلّن يحطوا لافتات هونيك». يختصر تيريزيان المشكلة والتمييز بسهولة، مفترضاً أن حملات التوعية وحدها ليس بإمكانها «ضبط سلوك الناس الذين يجب أن يتحلوا بالحس الأخلاقي العام». ويرفض، كذلك، تحميل بلدية بيروت مسؤولية الإهمال عموماً «لأننا لسنا الدولة اللبنانية»، ضارباً بعرض الحائط أهمية التشريعات والمواد القانونية الضرورية للحد من جرائم الإضرار بالبيئة. يختم مستدركاً: «القصة ما بدها كتير قانون».

الوزير غير معني بالموضوع

في بريطانيا تلزم المادة (65) من قانون «الأحياء والبيئة النظيفة» الذي أقر عام 2005، أصحاب الكلاب بإزالة مخلّفاتها، وتُعرّض المخالفين للملاحقة القانونية تحت شبهة «ارتكاب جريمة جنائية» بحق البيئة. محلياً، يقودنا البحث في الأطر القانونية لحماية الحيز المديني من المخاطر المحتملة لمخلفات الكلاب (المصنفة ملوثات غير قابلة للتحلل)، إلى وزارة الزراعة، المعنية بالدرجة الأولى في معالجة الوضع القائم، على اعتبار أنها الجهة التي صاغت مشروع قانون حماية الحيوانات والرفق بها. لكن صيغة القانون (أقر في آب الـ2017 بعد سبع سنوات على اقتراحه، وثلاث سنوات على إحالته على المجلس النيابي)، الذي شرَّع أخيراً مسألة الرفق بالحيوان وطريقة تربيته والاتجار به، لم تقدم آلية واضحة للتعامل مع مسألة مخلفات الكلاب، ولم تتطرق إلى التداعيات القانونية أو الأحكام الجرمية المترتبة في حال امتنع مقتنو الكلاب عن إزالة البقايا في المساحات العامة. وهي مسألة لا تقل أهمية عن مراعاة القواعد العامة التي ترعى التعامل مع الحيوانات، لكن لسببٍ ما تم «تهميشها» من قبل اللجنة المكلفة صياغة القانون في عهد وزير الزراعة الحالي، غازي زعيتر. في حديثه إلى «الأخبار»، شدد زعيتر على أنه «مش معني بالموضوع». يقول إنه ليس مسؤولاً عن صيغة القانون بصورته الحالية، متذرعاً بعدم اختصاصه. بيد أن هذا يثير استغراب وزير الزراعة السابق، حسين الحاج حسن، الذي يسأل «إن كانت ليست وزارة الزراعة هي الجهة التي يجب أن تتعامل مع المسألة، فمن يتعامل معها»، مشدداً على دور الوزارة «الطبيعي» في طرح بعض التعديلات الطارئة على مضمون القانون «إذا لزم الأمر». وبانتظار التعديل الوزاري الذي «قد لا يحصل أبداً»، أكد الحاج حسن أن المشكلة يمكن معالجتها في الوقت الحالي عبر مرسوم حكومي تصدره وزارة الزراعة، يجيز لبلدية بيروت إصدار تدبير إجرائي مناسب يتضمن آلية توضّح لمقتني الكلاب طرق إزالة المخلّفات، ويتم على أساسه تنظيم التعامل مع المخالفات قانونياً. بمعنى أوضح، يصبح لازماً أن يضع المجلس البلدي خطة مدروسة تشمل كل الأرصفة الواقعة في نطاق بيروت لملاحقة المخالفين وفرض الغرامات المالية. وهي، عملياً، الطريقة الأمثل «لحث الناس على الشعور بالمسؤولية تجاه الحيز العام»، إلى جانب اللوحات الإرشادية الضرورية. ولكن، حتى ذلك الوقت، على المارة أن يعبروا الرصيف، على رؤوس أصابعهم. يمكنكم الآن، أن تنزعوا الكمامات.




فضلات «مسمومة»

إلى جانب التوعية الثقافية، يشدد الطبيب البيطري، نضال حسن، على أهمية اقترانها بتوعية حول المخاطر البيئية والصحية الناجمة عن فضلات الكلاب المتروكة، ولا سيّما أننا نتحدث عن «ترِند» مستمد من ثقافات غربية، تلقفها المجتمع اللبناني دون أن يعي أفراده تبعاتها على المدى الطويل. فالفضلات «التي يمكن أن تلتصق بنِعال الأحذية أو بحوافر كلاب أخرى عابرة»، يمكن أن تحمل العدوى الميكروبية جراء انتقال الديدان وبويضاتها الملوّثة في التربة إلى الإنسان. مثلاً، يشير حسن إلى داء «السهميات» Toxocariasis)) الذي يسببه طفيلي الديدان (Parasitic roundworms)، تلك التي تعيش في أمعاء الكلاب ويتم تمرير بيضها إلى البشر عن طريق الفضلات. والحال أن السموم الناجمة عن اختلاط الفضلات بالأتربة، والتصاقها بين ثنايا الأرصفة، قد تصيب بدورها كلاباً مدجنة أخرى، أو حتى الشاردة منها، تلك التي لم يشفع لها «خجلها»، والتي سُممت من قبل عناصر المفرزة الصحية التابعة لبلدية الغبيري قبل أسابيع، بحجة «تهديدها للمارة والسكان». سؤال آخر: ألم يتم تعميم نص قانون حماية الحيوانات والرفق بها على كل البلديات كما تقتضي الأعراف؟ السؤال برسم وزارة الزراعة.