المسألة أبعد مِن مجرّد قارورة مُشعّة صغيرة، عُثِر عليها في محلة الأوزاعي عند مدخل بيروت الجنوبي، وتبيّن فعلاً أنّها خطرة. يشرح المدير العام للهيئة اللبنانية للطاقة الذرية بلال نصولي: «نعم، تأكّدنا أنّها مُشعّة بالفحص الخاص، وهي مِن النوع الذي يُستخدم صناعيّاً، ويُرجّح أنّها تُستعمل ضمن الصناعات النفطيّة.
الشركات التي تُنقّب عن النفط، عادة، تستفيد مِنها في عملها لكشف الهيدروجين. بالمناسبة، شركات النفط التي ستعمل في المياه اللبنانيّة، كانت تسأل أخيراً إن كان لدينا هيئة مراقبة للمواد المُشعّة». المُهم، هل تلك القاروة آتية مِن البحر، مِن تلك الشركات أو سواها؟ لا يمكن لنصولي أن يجزم. هذا احتمال وارد. هناك احتمال آخر: «مواد الركام الحديدي، الذي تقول الجمارك إنّها تحظر استيراده، نعلم أنّه ربما يدخل عبر التهريب، فتأتي تلك القوارير والأجسام المشعّة الأخرى معه. بعضها يُستخدم في آلات التصوير الطبّي، وبعضها في الزراعة، المهم تواصلنا سابقاً في هذا الشأن، أكثر مِن مرّة، مع المعنيين في إدارة مرفأ بيروت وكذلك في مرفأ طرابلس. منذ عام 2010 ونحن نُعاني مِن هذا الأمر». إذاً، هذا الإشعاع، هو الآخر، فالت في بلادنا.

أوضح نصولي أنّ القارورة تحوي أشعة غاما وكذلك تُصنّف نيوترونيّة




ما حكاية تلك القارورة الصغيرة الحمراء، تحديداً، التي عُثِر عليها أمس قرب شاطىء بحر الأوزاعي؟ يُسهب «المسؤول الذرّي» في لبنان، قائلاً لـ»الأخبار»: «في هذا النوع مِن القوارير نجد عادة أكثر مِن أشعة، مِنها أشعة غاما وألفا وبيتا، القارورة نفسها تبيّن أنها تحوي أشعة غاما، وهذه أخطر مِن ألفا وبيتا، كذلك تبيّن إلى الآن أنّها تحوي نيوترون، وهذا أخطر مِن كل ما سلف. كلّ هذه الإشعاعات غير مرئيّة، لا رائحة لها ولا لون، لذا يُمكن لأحد أن يتعرّض لها مِن غير أن يشعر. إنّها ترفع درجة حرارة الخلايا في الجسم، فتعبث في تكوينها وكذلك تتغيّر الخريطة الجينيّة، سريعاً، ما يؤدّي إلى حروق وإلى تخثّر في الدم وكذلك سرطانات مختلفة، وأحياناً إلى وفاة سريعة». القارورة ما زالت هناك، في مكانها، ضربت القوى الأمنيّة حولها طوقاً أمنيّاً. ربّما هذا أوّل طوق أمني مِن نوعه في لبنان. قارورة حمراء تمثّل «ساحة جريمة». ممنوع الاقتراب مِنها لمسافة 20 متراً. لكن، مع ذلك، يقول نصولي إنّ تلك القارورة «غير مضرّة، مِن حيث المبدأ، طالما أن الشخص كان يبتعد عنها مسافة 4 أمتار تقريباً. أساساً، هي آمنة، طالما أنّها مقفلة، ولكن عدم تسرّب الإشعاع غير مضمون. اليوم ستعمل هيئة الطاقة الذريّة على نقلها مِن مكانها، لوضعها في مكان آمن، وإجراء بحث إضافي». بالمناسبة، مكتوب عليها «USA» كبلد مُصنّع. هذا لا يعني شيئاً، في السياسة، بالضرورة. الخبراء يقولون إنّ نحو عشر دول تُصنّع مثل هذه القوارير وهي منتشرة في العالم. لكن حتّى في هذه، لا شيء يأتي مِن أميركا يسرّ الخاطر، ولو صدفة!
كلّ هذا في كفّة، وهو مقدور عليه بحسب نصولي، والبعد الأمني لهذه القارورة، وسائر المواد المُشعّة التي تُضبط في لبنان، في كفّة أخرى. جاء فريق مِن سلاح الهندسة في الجيش اللبناني إلى مكان القارورة. أجروا اللازم. حضر مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكريّة القاضي بيتر جرمانوس. لا بدّ مِن التحقيق في كيفيّة وصولها إلى هناك. مَن وضعها وكيف ومتى؟ جاءت مِن البحر أم مِن البر؟ نصولي، ومعه الأمين العام للمجلس الوطني للبحوث العلمية، معين حمزة، لفتوا المسؤولين إلى الخطورة الأمنيّة لتلك المواد: «مَن يضمن عدم وقوعها في أيدي مجموعات إرهابيّة؟». مخيف مجرّد التفكير في الأمر. حمزة يتوقّع أن تكون تلك القارورة «قد جاءت عبر العاملين في الخردة التي تُصدّر. فربّما حصل أن اكتشفوا أنها بين قطعهم وممنوع عليهم تصديرها، نتيجة إشارة مِن الرقابة في المرافئ، فرموها هناك حيث وجِدت. هذا احتمال».
هكذا، بعد أن كانت الوكالة الوطنيّة للإعلام قد ذكرت، ليل أمس، أنّ ما عُثِر عليه هو «قارورة غاز» صغيرة، موردة مِن بين الاحتمالات أن تكون «وضِعت وكُتبت عليها العبارة بهدف إثارة الخوف في نفوس المواطنين»... يتبيّن لاحقاً أنّها ليست مزحة، فهي مُشعّة فعلاً. وزير البيئة طارق الخطيب حضر إلى مكان القارورة. نظر إلى الموقع. تأمّل الحالة. أصدرت وزارته بياناً بعد الزيارة جاء فيه: «إنّها قارورة غاز تحوي مواد مُشعّة». غاز ومُشعّة! عموماً، معذور الوزير. هذه أشياء لا تحدث دائماً، أو بالأحرى، لا تُكتشف دائماً في لبنان. حصل عام 2015 أن تقدّم رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي بشكوى، لدى النيابة العامة التمييزيّة، ضدّ «كلّ مَن يظهره التحقيق فاعلاً أو شريكاً أو محرّضاً أو متدخلاً، أقدم على تأليف عصابات ومافيات متخصّصة في تهريب نفايات مُشعّة وإدخالها إلى الأراضي اللبنانيّة». كان الحديث يومها عن طمر مواد مُشعّة في بلدة عدلون الجنوبيّة. آنذاك، كُلّفت المباحث المركزيّة بالتحقيق في هذه القضيّة. أين أصبحت تلك التحقيقات؟ النظام الذي «طمَرَ» ملف النفايات المُشعّة المستوردة مِن أوروبا إلى لبنان، في ثمانينيات القرن الماضي، عبر بعض ميليشيات الحرب الأهليّة في الشمال وجبل لبنان، لا يزال حاضراً لطمر كلّ تحقيق... كلّ «إشعاع» تحقيق.