في السنوات الأخيرة أجّر كثر من المقيمين من الفلسطينيين في مخيم شاتيلا للاجئين الفلسطينيين بيوتهم لنازحين سوريين وبحثوا عن منازل للإيجار خارجه. هنا، تتكاثف البيوت. تتّكئ على بعضها كأن طفلاً أشادها من «ورق الشدّة»، فإذا هي آيلة للسقوط عند أدنى ضربة. ينعدم النور في شقق هي كناية عن غرفة أو اثنتين ضمن مبنى عشوائي يقف ملتوياً، ويلتصق بكلّ مبنى درج أشبه بسلّم مرفوع عمودياً يتجنّبه من لا يودّ المغامرة بسقطة خطيرة تكلّفه عطباً دائماً. هي حال طفل فلسطيني خسر إحدى كليتيه ما اضطر والده لبيع كليته والهرب بابنه بعيداً إلى مكان أكثر أماناً.
بيع الكلى «حلّ» يلجأ إليه كثيرون في المخيّم، ويجري التسويق له عبر مواقع التواصل الاجتماعي. مغادرة المكان تبقى هدف من ازدروا التنفّس فيه. لكن الذكريات لا تغادر: «أبو عمّار» مرّ من هنا.
«المبنى 1»، «المبنى 2»... هكذا يعرّف سكان «مجمع سعيد الغواش» المقرّات التي تنقّل بينها «أبو عمار»، منذ منتصف السبعينيات وحتى الاجتياح الاسرائيلي لبيروت عام 1982. لم تتحوّل هذه المقرات إلى متاحف بل أصبحت مباني سكنية. أحدها لا يزال على حاله. مكوّن من طبقتين، ممتدّ على طول الزقاق، بجانبه باب يؤدي إلى نفق يصل المبنى بـ«مجمع الداعوق» المجاور. عند مدخل النفق قُتِل شابان. في هذا الزقاق خطف زوج «إم علي». تتوالى الروايات. أما المنزل الأساسي لـ«الختيار» فكان، حينذاك، في منطقة الروّاس (الطريق الجديدة). لم يعرف الزعيم التاريخي للفلسطينيين الاستقرار في مكان، ولم يكن يسجّل أملاكاً باسمه. يشتري المنزل باسم شخص ما وعندما يغادر يترك البيت للشخص المعني.

لم يعرف عرفات الاستقرار في مكان ويصرّ السكان على أن «كلّ البيوت كانت بيوته»
يصرّ السكان على أن «كلّ البيوت كانت بيوته»، إذ كان يبيت حيث يشاء.
الروايات الشعبيّة المتناقلة عن ياسر عرفات، لا بدّ أن تقترن بالحديث إلى «أبو عبد كيالي»، المسؤول السابق في أمن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية. رجل سبعيني كان حين قابلناه مستلقياً فوق سريره يشاهد نشرة الأخبار. وثب فور سماعه باسم قائده، قائلاً: «رجل لا يتكرّر... قائد... أسطورة». يفتخر أبو عبد بمعاصرته للقادة الفلسطينيين أمثال «أبو الهول» و«أبو إياد» و«أبو يوسف النجار» وكمال عدوان وكمال ناصر. لكنه، مثل الجميع، الأقرب إلى قلبه كان «أبو عمار». يتذكّره متجوّلاً بين مخيّمات اللجوء... «كريم النفس، يعرف ما سيقول محدّثه قبل أن ينطق بحرف. متوقّد الذكاء.
كان ينام في منزلي أحياناً». يذكر «أبو عبد» كيف كان «الختيار» يقود سيارته الـ«دودج»، من دون مرافقة، عابراً كلّ مناطق بيروت. يقلّب ذاكرته جيداً منذ خروجه طفلاً من فلسطين عام 1948... «كنا نملك مصيفاً في جديتا البقاعية، جئنا إليه أوّلاً على أساس أننا سنعود إلى القدس. مرّت الأيام والشهور ونحن نغفو على حلم العودة. أهلنا كانوا على البرَكة متيقّنين بالعودة. تأمّلوا خيراً في دخول جيش الإنقاذ إلى فلسطين، لكن ذلك لم يحصل».
في فترة الاجتياح الاسرائيلي لبيروت، كان ضمن الحرس الشخصي لرمز المقاومة الفلسطينية: «كان القائد ينظر الى السماء. يتوقّع قدوم الطيران الحربي، فيشير الينا بعجلة للصعود الى السيارات والمغادرة». لم يبتعدوا نحو 30 متراً «حتى شاهدنا البناية تتهاوى مثل البسكوت» في محلة برج ابي حيدر. «عسكري فذّ، يملك حدساً، ويعرف مواعيد ردود الفعل على الحوادث». غادر «أبو عبد» مع «أبو عمار» وبقية القيادات الفلسطينية بعد الاجتياح، على متن باخرة انطلقت من مرفأ طرابلس إلى اليمن.
استقرّ في صنعاء طوال عامين، فيما تنقّل «أبو عمار» بين عدد من الدول العربية. لم تسمح ظروفه العائلية بالدخول مع عرفات إلى رام الله فعاد أدراجه إلى لبنان. منذ ذلك الوقت لم يلتقِ بعرفات وجهاً لوجه، إنما «كنت أنتظره عبر شاشة التلفزيون، خصوصاً تلك الحلقة الشهيرة التي انسحب منها عبر قناة لبنانية». يحنّ «أبو عبد» الى بندقيته. تدمع عيناه متمنياً شهادة تأخّرت في وجه العدو الصهيوني. كان «أبو عمار» حازماً مع عسكره: «كسر رتبتي من عميد إلى ملازم أوّل لأنه غضب من التحاقي بفتح الانتفاضة». يبرر ذكريات لم تعد تلاحقه: «خطوة أجبرت عليها لحماية نفسي من ملاحقة السوريين، لا سيّما أن لي 11 ولداً». يفاخر «الفتحاوي» حتى العظم بأنه قاتل طوال 20 عاماً لأجل القضية الفلسطينية وحدها: «قمت بعمليات ضد الاسرائيليين، كنت أقود مجموعة من المقاتلين وأعود أحياناً وحيداً».

النجاة من المجزرة

شذّب «أبو عبد» ذاكرته من أحقاد الماضي، إلّا الحقد على الاسرائيليين. أسقط منها كل ما يتعلّق بمآسي المخيّم «نحن أيضاً لم نقصّر». القتل كان من الطرفين. ويستعيد قصصاً «على حسابه»: «عندما اعتقل بشير الجميّل في المخيّم لم يتعرض أحد له. قال أبو عمار لأبو حسن سلامة: سلّمه لأبيه». تعامل الجميّل مع الاسرائيليين، ويعتقد المسؤول الفلسطيني إنهم «أسهموا في تصفيته بعدما رفع شعاره الشهير عن الـ 10452». يردف، ولا نعرف إن كان يسايرنا: «لم نفرح باغتياله، أهل بيتي بكوا عليه إنسانياً لأنه شاب صغير».
يصعب تصديق هذا التصالح الذي بيّنه كيالي، خصوصاً أنه ينتمي لأحد أشرس أطراف الاقتتال الداخلي، كما شهد على الانتقام الذي أعقب اغتيال الجميّل، تحديداً مجزرتي صبرا وشاتيلا. يتذكّر كل ما يتعلق بالمجزرتين اللتين نجا منهما. مشّطت القوات الاسرائيلية المخيّم لأن من الصعب دخوله، اعتقلت مئات المقاتلين واحتجزتهم في المدينة الرياضية. من شدّة «مكر» الاسرائيليين لم يقتلوا أحداً، بل أوعزوا لـ«القوات اللبنانية» بقتل الناس. هذه هي قناعته بعد سنوات طويلة على المذبحة: «لم نُقتل بالرصاص بل بالبلطة التي يقطع فيها الخشب». شاهد كيالي المعتدين على المخيّم عن قرب، «نادوني بلهجة جبليّة ميّزتها لأني ابن بيروت. لم أرتح للأمر. منعت مرافقي من التقدّم نحوهم، واتّخذنا موقعاً دفاعياً. إذ هاجمونا فتمكّنا من الفرار لأننا نعرف الزواريب جيداً».
يتسلّل المسؤول السابق عن «أمن منظمة التحرير»، كما يحلو له التعريف عن نفسه، إلى الذاكرة المجتزأة لمآسي المخيمات محاولاً ترميمها. يعبر فوق صور القتل مؤكداً أن أطرافاً كثيرة شاركت فيها. تركت «حرب المخيّمات» في نفسه أثراً سلبياً، لأنها لم تكن ضدّ الاسرائيليين: «نحن دافعنا عن أنفسنا، لم نقصّر، ولا أي قوة استطاعت حتى الآن دخول أي مخيم لأننا أصحاب حق وقضية».