ما أعلنته أمس رئاسة الجمهورية، بالنسبة إلى القروض السكنية المدعومة من مصرف لبنان، ليس حلّاً كما يُعتقَد، بل هو إجراء موضعي محدّد جداً هدفه معالجة الطلبات التي التزمت بها المصارف مع زبائنها فقط. الإجراء قضى بأن يوافق مصرف لبنان على تغطية الطلبات الحاصلة على موافقة المصارف من ضمن رزمة الدعم المخصصة لعام 2019، بشرط أن تتحمّل المصارف كلفة الدعم خلال عام 2018. وباستثناء هذه الحالات، لن يكون هناك أي قرض سكني مدعوم على مدى الأشهر العشرة الباقية من عام 2018 بعدما استنفدت المصارف كامل «كوتا» الدعم المخصصة لها من مصرف لبنان.
أُعلن هذا الإجراء بعد لقاء رئيس الجمهورية بحاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة أمس، في بعبدا، إذ أوضح سلامة، بعد اللقاء، أن مصرف لبنان «أعطى المصارف مبلغ نصف مليار دولار في شهر شباط الماضي للقروض السكنية، وفقاً للكوتا المخصصة لكل مصرف، بهدف إعطائها للراغبين في شراء شقق سكنية، إلا أن هذا الدعم استُهلك خلال شهر نتيجة الطلب غير المسبوق على شراء شقق سكنية، فضلاً عن أن هناك مصارف أعطت تعهدات (للزبائن) أكثر من الكوتا المخصصة لها، وطلبنا تنفيذ التزاماتها على أن تُدخل بعد ذلك القروض المالية المعنية في رزمة الدعم لعام 2019». ولفت إلى أن «السياسة الاسكانية ليست من اختصاص مصرف لبنان بل من اختصاص الدولة، ودور المركزي ضخّ سيولة لتفعيل الاقتصاد وتأمين شمول مالي واسع، لكن أهدافه تبقى تحت سقف عدم حصول تضخم».
ما لم يقله سلامة علناً، بحسب مصادر مطلعة، هو أن مصرف لبنان لن يزيد قيمة الدعم المخصص للقروض السكنية في عام 2018 نظراً لاعتبارت نقدية تتعلق بترتيب أولويات مصرف لبنان «وهي نقدية في هذه المرحلة»، أي إنه لن يزيد الكوتا التي خصصها للمصارف هذه السنة. مشكلة مصرف لبنان أن حجم سوق القروض السكنية ارتفع إلى 3000 مليار ليرة سنوياً بلا أي مبرّر، وأن ضخّ هذه المبالغ في السوق يخلق طلباً على الدولار في ظل ظروف ضاغطة حالياً (القسم الأكبر من الأموال التي يضخها مصرف لبنان تذهب إلى السوق لتمويل استهلاك سلع نستوردها وندفع ثمنها بالعملات الأجنبية، أو تذهب للتوظيف في سندات الخزينة أو يتم تحويلها إلى الخارج... في كل الحالات هي عبارة عن طلب على الدولار). «الترف السابق انتهى، ويجب أن تكون هناك قواعد جديدة في السوق» تقول مصادر في مصرف لبنان.

أي سياسة إسكانية ستنتهجها الدولة، ولمصلحة من، في حال كانت تريد أن تنتهج سياسة ما؟



والأسوأ من ذلك أنه تبيّن وجود تلاعب في القروض السكنية، سواء عبر المضاربات العقارية أو عبر إعطاء القروض لمن لا تنطبق عليه شروط الاستفادة. كذلك تبيّن وجود تواطؤ بين المصارف والزبائن الكبار (غالبيتهم مضاربون عقاريون) لنفخ قيمة تخمين الشقق، ما أتاح لهم الاستفادة من قروض سكنية مدعومة ضمن سقوف وصلت إلى 1.2 مليار ليرة لكل قرض للتهرّب من دفع المقترض للدفعة الأولى (بين 20 و30%) والتي تموّل عادة من طالب القرض، أو لتمكين هؤلاء المضاربين من الحصول على مبالغ إضافية من خلال التلاعب بأسعار البيع وقيمة التخمين.
في هذا الإطار، استفاد من القروض السكنية المدعومة رجال أعمال متمولون وسياسيون ومضاربون وغيرهم. لكن اللافت أنه في الأشهر الاخيرة من السنة الماضية ازداد الطلب على القروض السكنية بشكل كبير، وبات التعامل معها يتطلب أكثر دقّة وأكثر موضوعية للفصل بين الألاعيب التي تمارسها المصارف والمضاربين، والملفات الصحيحة التي يستفيد منها طالبو السكن. هذا يعني أن التدقيق في كل ملف بملفه من مصرف لبنان أصبح أمراً ملحّاً. ففي السابق، كانت المصارف تستحصل على ورقة من مركزية المخاطر لدى مصرف لبنان تستطلع فيها أوضاع طالب القرض ومدى انطباق شروط الاستفادة عليه، أي إن المصارف هي التي كانت تدقّق في الملفات وليس مصرف لبنان. لاحقاً تبيّن أن هناك عدداً كبيراً من المقترضين الذين لا تنطبق عليهم الشروط، سواء كانوا مضاربين أو استفادوا سابقاً من قرض أو نفخوا القروض لاستفادتهم الخاصة أو أياً كانت طريقة التلاعب. المصرف كان مسؤولاً. لذا، قرّر مصرف لبنان أن يدرس كل طلب بطلبه، لكن الفترة الانتقالية خلقت مشكلة لمصرف لبنان وللمصارف والزبائن على حدّ سواء. فالمصرف تراكمت لديه الطلبات، فيما الزبائن كانوا يتصرفون على أساس أن الدعم لن يتوقف، ومصرف لبنان كان يضمر شيئاً آخر. هكذا وقع الزبائن ضحية تعديل آلية الدعم. الطلبات التي تعهدت بها المصارف للزبائن كانت تفوق قيمتها مبالغ الدعم التي خصّصها مصرف لبنان. يومها طلب سلامة من المصارف تحمّل الكلفة الإضافية، إلا أن المصارف رفضت خفض أرباحها.
مصرف لبنان كان ينظر إلى هذا المسار من زاوية السياسات النقدية، فانفجرت القصة بوجه الزبائن الذين قدّموا طلبات وعلقت في منتصف الطريق بين تعديل آلية الدعم ومواقف المصارف. حاولت المصارف أن تتفاوض مع مصرف لبنان للحصول على ضماناته بعدم وقف الدعم وبأن مصرف لبنان سيوافق على إدراج الطلبات العالقة لدى المصارف من ضمن رزمة الدعم لعام 2019. المصارف كانت قلقة من أن يفرض عليها مصرف لبنان أن تتحمّل كلفة دعم هذه الطلبات وحدها، لأن هذا الأمر سيؤثّر على وضعيتها السوقية ويعطي أفضلية لمصارف على أخرى...
وتحت وطأة الضغوط الانتخابية، عولجت مسألة القروض العالقة لدى المصارف، لكن القروض الإسكانية بشكل عام لم تعالج بعد، ولا يتوقع أن يكون هناك علاج سريع لها، لأن المشكلة أنه إذا قرّرت الدولة (وزارة المال) أن تتحمّل كلفة الدعم، فعليها أن تؤمن في السنة الأولى مبلغاً يتجاوز 50 مليار ليرة للمؤسسة العامة للإسكان وحدها، ويزيد هذا المبلغ تدريجياً إذا تقرّر أن الدعم يجب أن يشمل مؤسسات أخرى لديها بروتوكولات إسكان مع المصارف، وإذا تقرّر أن سقف القروض هو السقف الذي وضعه مصرف لبنان (1.2 مليار ليرة كحدّ أقصى لكل قرض) لا الذي تمنحه المؤسسة العامة (270 مليون ليرة لكل قرض كحدّ أقصى)، فإن الكلفة ستكون أكبر بكثير... كل خيار يخلق سيناريو مختلف عن الآخر بكلفته وعدد المستفيدين وحجم الاستفادة، لكن كل ذلك يتوقف على أي سياسة إسكانية ستنتهجها الدولة، ولمصلحة من، في حال كانت تريد أن تنتهج سياسة ما!