فيما ينكبّ الوزراء والخبراء على دراسة موازنة عام ٢٠١٨ بالصيغة المُقدّمة من قبل وزارة المال، تحسَّس المسؤولون المشكلة التي يقع فيها الاقتصاد الوطني. فارتفاع العجز في الحسابات الحكومية، معطوفاً على الارتفاع في معدلات الدين العام نسبةً للناتج المحلّي والعجز في الحساب الجاري، يضع اللبنانيين في مواجهة مع الواقع. فمن جهة تدافعُ الفئات المختلفة من بنوك وموظفي قطاع عام وقضاة وأساتذة ...عن مكاسبها، ومن جهة أخرى ترزحُ المالية العامَّة تحت أعباء كبيرة لا يمكن في ظلّها الاستمرار بتجاهل ضرورة القيام بإصلاحات هيكلية عميقة تُخفضُ العجز وتُعيدُ العجلة الى النمو، بما يسمح بخفض نسبة الدين الى الناتج المحلّي.يتخطّى العجز الحقيقي في الموازنة، المقترحة أساساً وقبل إدخال التعديلات ضمن اللجنة الوزارية، 6 مليارات دولار أميركي (بعد احتساب النفقات غير الملحوظة)، أي 13٪ من الناتج المحلِّي، وهو معدّل مرتفع بالمعايير المالية الصرف وبالمفهوم الماكرو-اقتصادي. كذلك ارتفعت النفقات العامّة قبل إدخال التعديلات 16٪ مقارنة مع عام 2017، أي 2.5 مليار دولار، مع لحظ ارتفاع كبير في الرواتب والأجور (1.3 مليار دولار) وفي خدمة الدين العام (881 مليون دولار)، علماً بأن بندي الرواتب والأجور وخدمة الدين العام يشكلان 71% من مجمل النفقات العامّة (38٪ للرواتب و33٪ لخدمة الدين).
سلامة القطاع المصرفي مرتبطة إلى حدّ كبير بديمومة المالية العامة وباستقرارها


على مقربة من انعقاد مؤتمر CEDRE في باريس، وفي ظلّ الارتفاع التدريجي المُرتقب في معدلات الفوائد العالمية، يصبح مُلحاً القيام بإصلاحات جوهرية لخفض المخاطر وعدم انتظار البدء باستخراج النفط والغاز المُرتقب في عام 2020 على أقلّ تقدير.
إن الهدف الأساس من قيام الإصلاحات الهيكلية هو إعادة النمو إلى الاقتصاد الوطني، وإبعاد احتمال حدوث أزمة مالية في تمويل العجز الحكومي أو ثبات سعر الصرف.
يقودنا الحديث عن العجز في الحسابات الحكومية وفي تمويل الحساب الجاري إلى مراجعة العلاقة بين المؤشرات المالية والاقتصادية واحتمال حدوث أزمة.
ارتبطت معظم الأزمات المالية والاقتصادية عبر التاريخ، الحديث منه والبعيد، بالنمو السريع في أسعار الأصول، إذ عندما تبتعد الأسعار بشكل ملحوظ عن الأساسيات تندلع الأزمة. أحد الأمثلة هو الشقق: عندما ترتفع أسعارها بشكل كبير (بحيث يصبح من الأجدى اقتصادياً استئجار شقة بدل شرائها، أو بيعها بدل اقتنائها)، نكون أمام تشكّل فقاعة عقارية قد تنتهي بالانفجار، أو بدرجة أقلّ بحدوث تصحيح في مستوى الأسعار. ترتفع إمكانية حدوث أزمة مالية عندما يرتبط ارتفاع الأسعار في الأصول باللجوء الى الاستدانة لتمويل الاستثمار بهذه الأصول.

تصحيح أسعار العقارات

في غياب دور فاعل لسوق الأسهم وللبورصة، تتوجه معظم توظيفات اللبنانيين إلى السوق العقاري وسوق سندات الخزينة وشهادات الإصدار وغيرها من الأدوات المالية.
ارتفع الناتج المحلّي اللبناني بشكل كبير بين عامي ٢٠٠٨ و٢٠١٦، إذ بلغ ٥١ مليار دولار بنهاية عام ٢٠١٦ مقارنة مع ٢٩ مليار دولار في عام ٢٠٠٨، بمعدّل سنوي يفوق الـ ٨٪. كذلك نمت أسعار العقارات خلال الفترة ذاتها بنسب تفوق معدلات النمو في الناتج المحلّي، واستمرّ ارتفاع الأسعار حتى عام ٢٠١١ حين بدأ الطلب بالتراجع.
ما لا شك فيه أن التصحيح مستمرّ في أسعار الشقق والعقارات، وقد انخفضت الأسعار بنسب متفاوتة تصل في بعض الأحيان الى ٤٠٪، في ظلّ غياب للطلب (ما خلا الشقق الصغيرة الحجم، حتى خطوة مصرف لبنان الأخيرة بالحدّ من الدعم للمؤسسة العامة للإسكان). يدفعنا هذا للاعتقاد بأن الفقاعة العقارية قد انحسرت لتقترب الأسعار من الأساسيات (كالعائد المتوقع والنمو الديموغرافي وأسعار الفائدة)، بما يعني أن الأزمة في القطاع العقاري قد وصلت الى نهاياتها، حيث ستستقرّ الأسعار على مستوياتها الحالية.
أمام تراجع حدّة أزمة الأسعار في القطاع العقاري، يصبح التعامل مع مفاعيل هذه الأزمة من الناحية المالية ممكناً، في ظلّ ارتفاع ديون الإنشاءات المتعثرة إلى أكثر من ١٥٪ من الديون الإجمالية، وفي ظل انكشاف المصارف بشكل كبير على القطاع العقاري، حيث لامست القروض إلى المطورين والمتعهدين والمشترين الـ ٢٤ مليار دولار (من أصل ٥٤ مليار دولار تسليفات الى القطاع الخاص اللبناني، علماً بأن القطاع المصرفي يقرض أيضاً القطاع الخاص في الخارج ٦ مليارات دولار). الأمر الجيّد في هذا الإطار هو أن انخفاض الأسعار تمّ تدريجياً من دون أن يصل الأمر إلى أزمة عامة، ومن دون أن يتوقف المطورون العقاريون والزبائن بشكل مفاجئ عن تسديد قروضهم المصرفية. هذا يحدّ من أسباب تشكّل أزمة مالية بسبب القطاع العقاري، إذ إن جزءاً كبيراً من التصحيح في الأسعار قد تمّ.

القروض إلى القطاعين الخاص والعام

بعد نمو القروض الى القطاع الخاص بشكل قوي لامس الـ١٠٪ في السنة حتى عام ٢٠١٤، شهد عاما ٢٠١٥ و٢٠١٦ تراجعاً في معدّل نمو الإقراض الى القطاع الخاص الى ما دون ٢٪ سنوياً عام ٢٠١٦، كما استقرّ مستوى القروض المصرفية الى القطاع الخاص تحت عتبة الـ٣٠٪ من مجمل الأصول المصرفية، وهو المستوى ذاته لحجم الائتمان المصرفي للقطاع الخاص منذ عام ٢٠٠٣. على الرغم من تجاوز التسليفات للقطاع الخاص المحلّي الـ١١٠٪ من الناتج المحلّي، إلا أن توزع القروض والتسليفات على قطاعات مختلفة يحدّ من مخاطرها.
هذا من جهة الإقراض الى القطاع الخاص. أما من جهة القطاع العام فالوضع مختلف تماماً، إذ يقارب نمو الإقراض الى هذا القطاع ٧٪ سنوياً، وقد وصل مستوى الدين العام الى ١٥٠٪ من الناتج المحلي (٧٨ مليار دولار)، تشكّل الديون بالعملات الأجنبية ٣٩٪ منه. وإذا نظرنا إلى الدولة بشكل شامل – أي أخذنا بالاعتبار الدين العام وودائع البنوك لدى مصرف لبنان– نجد أن ٦٠٪ من أصول القطاع المصرفي موظفة لدى الدولة اللبنانية! هذا يعني بأن سلامة القطاع المصرفي مرتبطة الى حدّ كبير بديمومة المالية العامة وباستقرارها. على الرغم من أن هشاشة المالية العامة قد تسبّب أزمة مالية، إلا أن مخاطر الوضع المالي يمكن التحوّط لها عبر رزمة من الإجراءات التصحيحية ومن خلال الحدّ من العلاقة غير المنتظمة بين الدولة والبنك المركزي من جهة، وبين البنك المركزي والمصارف من جهة أخرى.

هندسة تلغي جزءاً من العجز

أظهرت نقاشات اللجنة الوزارية لدراسة موازنة عام ٢٠١٨ وعياً لدى المسؤولين لمخاطر التفلّت في العجز، لكن الإجراءات المقترحة لا ترقى بعد إلى الإصلاحات الواجب اتخاذها لتحاشي المخاطر السيادية. إن العجز في حسابات الدولة الذي يتخطى الـ١٢٪ من الناتج المحلّي في عام ٢٠١٨ (تقلّ الواردات عن ٧٠٪ من مجمل النفقات)، مؤشر إلى ضرورة الشروع بإجراءات هيكلية تعيد النمو وتضع الدين العام على سكة الانخفاض. يجب العمل في هذا الإطار على خفض خدمة الدين العام وعلى معالجة مشكلة الكهرباء ورفع الواردات الضريبية لتنتفي أسباب القلق من إمكان حدوث صدمة داخلية أو خارجية تعرّض الاستقرار المالي لخضّة أو أزمة.

للصورة المكبرة أنقر هنا


إن الخطوة الأكثر ضرورة حالياً هي استبدال سندات الخزينة لدى مصرف لبنان، والتي تدرّ عائداً سنوياً يتجاوز ٧٪، بسندات أخرى لا تتجاوز فائدتها 1%، بما يلغي جزءاً من العجز السنوي، على أن يعالج اللبنانيون المشاكل الأخرى تزامناً (وخاصة مشكلة العجز في كهرباء لبنان وزيادة الواردات الضريبية عبر تحسين الإلتزام والإمتثال الضريبيين من دون زيادات في النسب الضريبية).
قام مصرف لبنان طوال الأعوام العشرين السابقة بهندسات مالية عديدة لدعم إحتياطاته بالعملات الصعبة ولزيادة أصول المساهمين في البنوك، أو لمحو خسائرهم الخارجية، كما لدعم القطاعات الاقتصادية المختلفة.
أقدمت السلطات النقدية على خطوات الدعم لصالح فئات مختلفة، ومن الطبيعي أن تقوم بذلك الآن لصالح الخزينة، التي أنهكها الارتفاع في مستوى الفوائد بسبب إصدارات شهادات الإيداع، وبسبب التوسّع الكبير في ميزانية مصرف لبنان.
إن المطلوب عاجلاً هو القيام بهندسة مالية جديدة – لكنها معاكسة هذه المرّة – تكون لصالح المالية العامة، بعد أن كانت في السابق على حسابها. تبعث نقاشات لجنة الموازنة لعام ٢٠١٨ في هذا الاتجاه على الأمل.




هو العائد السنوي على سندات الخزينة لدى مصرف لبنان، ويمكن استبدالها بسندات أخرى لا تتجاوز فائدتها 1%، ما يساهم بإلغاء جزء مهم من العجز في الموازنة، تبعاً لقيمة هذه السندات وآجالها


60%

من أصول القطاع المصرفي موظفة لدى الدولة اللبنانية


71%
هي حصة
خدمة الدين العام والرواتب والأجور من مجمل النفقات العامة


الأوجه المتعدّدة للأزمات

أعادت الأزمة المالية العالمية التي اندلعت في عام 2007 إلى الذاكرة الأوجه المتعدّدة للأزمات المالية والاقتصادية.

• لا فرق في الأزمات بين دول كبرى وأخرى صغيرة، أو بين دول غنيّة وأخرى فقيرة. على سبيل المثال، طالت الأزمة المالية العالمية في عام 2007 الولايات المتحدة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي، أولاً، وهذه الدول هي من الأغنى والأكبر في العالم.

• يمكن أن تكون أسباب اندلاع الأزمات داخلية، كما يمكن أن تنشأ لأسباب خارجية. هذا ما حصل في عام ٢٠٠٧عندما انتقلت الأزمة المالية من الولايات المتحدة إلى دول الاتحاد الأوروبي واليابان والمملكة المتحدة، كما أصابت شظاياها الصين والدول المصدّرة للنفط.

• قد تنشأ الأزمة بسبب القطاع العام، كما قد تنشأ من القطاع الخاص. نشأت الأزمة في عام 2007 أساساً في القطاع العقاري الأميركي، قبل أن تتوسّع إلى القطاع المالي، ومن ثمّ إلى مجمل الاقتصاد الأميركي، ومنه إلى الاقتصاد العالمي.

• يستحيل معرفة زمان حدوث الأزمات، وهي في هذا الإطار مشابهة لاحتمالات وقوع الزلازل. فكما لم ينجح العلماء حتى الآن بمعرفة متى يقع زلزالٌ ما، كذلك لا يمكن للاقتصاديين التنبؤ بزمان حدوث أزمة مالية.

• لا ترتبط الأزمات حصراً بالأساسيات (Fundamentals). قد تنشأ أزمة لأسباب هيكلية (كالنمو السريع في القروض أو الارتفاع القوي في أسعار الأصول) بقدر ما قد تنشأ لأسباب غير عقلانية (كالتهافت على سحب الودائع من البنوك أو نشوء أزمة ائتمان...).