تكفي مراجعة خارطة الجمهورية العربية السورية وتوزّع مناطق السيطرة والنفوذ على مختلف مناطقها، حتى يتيقّن المراقب بأن استعادة دمشق سيطرتها على أراضيها تقدمت بطريقة مذهلة خلال العامين الماضيين. في هذه الحال، يمكن فهم حال الذعر التي تسود القوى والدول المعادية لسوريا وحلفائها. إذ يمكن، خلال أسابيع قليلة، الحديث عن وجهة تقود إلى عنوان واحد: فشل مشروع السيطرة الأميركية ــــ الأوروبية ــــ الإسرائيلية ــــ الخليجية على سوريا، مقابل تعاظم نفوذ الدولة السورية، وإلى جانبها حليفاها المركزيان: إيران وحزب الله. فكيف في ظل استدارة روسية كبيرة تمثلت في توفير موسكو أضخم مظلة عسكرية للمعركة المفتوحة في وجه الارهاب؟منذ أواخر الصيف الماضي تنشغل إسرائيل، مع الولايات المتحدة وعواصم أوروبية وخليجية، في كيفية احتواء الهجوم المضاد الذي تشنّه دمشق وحلفاؤها. الهاجس المركزي لم يعد في دعم المجموعات المسلحة، بل في جعل الساحة السورية غير قابلة للحياة، لا للدولة ولا للناس ولا للآخرين. ما يهم إسرائيل، هنا، يفوق بكثير ما يهم العواصم الأخرى. ذلك أن ما يسمى بالأمن القومي بات في دائرة الخطر الحقيقي، وبالتالي انتقلت تل أبيب إلى مرحلة البحث عن آليات عملانية تضمن أمنها، سواء من خلال التوجه إلى روسيا أو من خلال حثّ العواصم العربية المعادية لدمشق على إطالة أمد الحرب عبر تعزيز المجموعات المسلحة، أو عبر استغلال الوجود العسكري الأميركي المستجد لفرض توازنات تمنع تعرض إسرائيل للخطر.
عملياً، كل المحاولات الإسرائيلية باءت بالفشل، ما جعل قادة العدو يدركون أنّ تحقيق المصالح يتطلب المبادرة من دون الاتكال على أحد. هذه القناعة تعززت مع فشل الغرب في تحصيل ضمانات روسية، ومع فشل محاولات تعويم المجموعات المسلحة. وفي كل مرة عمد فيها العدو إلى الاعتداء على سوريا كانت الأمور تتعقد أكثر، إذ لا نتيجة سياسية لذلك. فلا روسيا قبلت التعهد بتوفير ضمانات لإسرائيل، ولا إيران اعتبرت نفسها معنية بالرسائل الإسرائيلية، بينما ذهبت دمشق ــــ بالتعاون مع حزب الله ــــ إلى تعزيز الواقع الميداني بما يسمح بالرد المباشر على تل أبيب متى أتيحت الفرصة. اتضّح ذلك، مثلاً، في العاشر من شباط الماضي، عندما أُسقطت طائرة إسرائيلية ما فرض على العدو تحدياً جديداً، بينما كانت الوقائع الميدانية تفرز المزيد من النجاحات للجيش السوري وحلفائه، بما في ذلك منع العدو من القيام بأي خطوة ذات فائدة في الجنوب السوري.
الهاجس المركزي أصبح في جعل الساحة السورية غير قابلة للحياة لا للدولة ولا للناس


اليوم، تشعر إسرائيل بأن الأمور قد تتخذ منحى خطيراً بالنسبة لها. فهي غير قادرة على البتّ في قرار شنّ حرب شاملة ضد الجبهة الشمالية التي تشمل سوريا ولبنان وحتى إيران. كما أنها لا تضمن مشاركة أميركية ــــ أوروبية ــــ عربية في مثل هذه الحرب. وبالتالي، تجد نفسها مضطرة للعمل بمفردها.
قبل أسابيع، يوم انطلقت معركة تحرير الغوطة الشرقية، راهنت تل أبيب على تحرك غربي من نوع مختلف. حينها حاول الأميركيون، بالتعاون مع الأوروبيين، «القيام بشيء ما»، وصدرت تهديدات كبيرة مترافقة مع استنفار عسكري غير مسبوق للقوات الأميركية في المنطقة. لكن الوقائع لم تقد إلى تحقيق الهدف الإسرائيلي بشن الحرب المعاكسة، بل خرج دونالد ترامب ليتحدث عن رغبته بسحب قواته من سوريا بصورة نهائية. وهي الخطوة غير الواقعية، بحسب المعادلات، لأنها تحمل في طياتها اعلان هزيمة كبرى لها في سوريا، وترك المنطقة أمام نفوذ مختلف نوعاً وكمّاً لخصوم إسرائيل.
ما الذي حصل؟
كان الجميع يتوقع أن يبادر الغرب إلى خطوة ما مستغلاً مسرحية السلاح الكيميائي في الغوطة. إلا أن الأمر كان سيبقى في إطار محدود. بمعنى أن أي ضربة أميركية ـــ أوروبية في سوريا لن تتخذ طابع الضربة الاستراتيجية التي تهدد النظام في دمشق، فموسكو أولاً لا تقبل بذلك، ما يعني احتمال حصول صدام أميركي ــــ روسي فوق سوريا، وهو أمر ليس مطروحاً على جدول أعمال البلدين. بالتالي، كان الجميع، حتى ساعة متقدمة من ليل أول من أمس، لا يستبعد حصول ضربة أميركية، لكن على نحو مشابه (ولو أكبر بقليل) لضربة الشعيرات التي تلت مسرحية «كيميائي خان شيخون». لكن، فجأة، خرجت طائرات العدو لتنفذ هجوماً مدروساً ومقرراً ضد قاعدة «شاهد» الإيرانية التي تشتمل على منظومة عمل الطائرات المسيرة في مطار «تي فور». إذاً، قالت إسرائيل إنها اختارت لحظة مناسبة، لتجاوز نتيجة ما حصل في 10 شباط الماضي ولدفع جميع اللاعبين على الساحة السورية، إلى طرق أبوابها بحثاً عن حلّ. وهي خطوة تستهدف تحقيق مجموعة من الأهداف.
عملياً، ينتظر الجميع الردّ على الغارة الإسرائيلية، وهناك ترقب للموقف الإيراني، مع العلم أن الجميع لا يزال ينتظر القرار الأميركي ــــ الأوروبي النهائي بشأن توجيه ضربة جديدة ضد الدولة السورية.
المنطقة أمام أيام حساسة للغاية. صحيح أن الجميع لا يريد الدخول في مواجهة شاملة. لكن مرور العدوان الإسرائيلي من دون نتائج سياسية مناسبة للعدو يدفع تل أبيب إلى تكرار الخطوة، وفي هذه الحال نكون أمام مزعج يطرق الباب مراراً وتكراراً... ما يوجب في لحظة ما أن يخرج من يردّ عليه!