17 ألف مفقود ساقتهم حرب أهلية. ربما هم أكثر وربما أقل. لا أحد يعرف الرقم الدقيق، سوى من عانوا من الفقد. غيرهم، لا أحد: لا الدولة الواقفة منذ 43 عاماً على الحياد، وكأنهم ليسوا مواطنين فيها، ولا حتى من تسببوا بكل هذا، وخصوصاً «التائبين» منهم، الذين لم يقولوا إلى الآن كلمة ذات معنى. كلمة تقول أين توجد المقابر الجماعية؟ أو أين هم من بقوا على قيد الحياة؟ لا أحد سيجيب عن تلك الأسئلة. حتى القانون الذي من المفترض أن يكون بمثابة اعتراف بحقّ الأهالي بمعرفة مصير أبنائهم، توقفت دورته بين اللجان عند لجنة الإدارة والعدل. لم يصدر القرار به بعد. فيما قرار حفظ العيّنات البيولوجية من أهالي المخطوفين، الذي تقوم به اللجنة الدولية للصليب الأحمر اللبناني ــــ في إطار المساعدة ــــ لا يزال ينتظر التوقيع «الرسمي». 43 عاماً تمضي على الحرب. لم تحدّد الدولة إلى الآن أعداد المخطوفين من مواطنيها ولم تقرّ القانون ولا أي شيء يخصّ هؤلاء. كل ما تفعله هو تذكير الأهالي في كل عام، في ذكرى 13 نيسان، بأنها لم تفعل لهم شيئاً. قد تصدر بيان استنكار وبعدها ينتهي كل شيء... تاركة مهمّة تذكيرنا بـ«اليوم الوطني» لآخرين. من لجنة أهالي المفقودين والمخطوفين في لبنان التي تعقد مؤتمراً صحافياً، عند الثانية عشرة من ظهر اليوم، لتسليم العريضة الوطنية للمفقودين وإطلاق حملة «لائحة المفقودين في كل لبنان»، من أمام «خيمة انتظار الأهالي» المقفلة منذ عام في حديقة جبران خليل جبران مقابل مبنى الإسكوا. إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر الدولي التي تطلق اليوم حملة «الأشهر الخمسة». وهي الحملة التي قسّمتها إلى 3 أجزاء تبدأ في ذكرى اندلاع الحرب الأهلية وتنتهي في اليوم العالمي للأشخاص المفقودين في الثلاثين من آب المقبل. اليوم، تطلق اللجنة الدولية الجزء الأول من حملتها. ذلك الجزء الذي استعار من الحرب وجوه مفقوديها، ليكونوا «مرشحين» من خارج التقسيم الطائفي. مرشحين «لكل لبنان» عن مقعد غائب، هو مقعد «المفقودين». ستة مرشحين، حاضرون في «لوائح الشطب» وغائبون على حاجزٍ ما، يخوضون، رمزياً، انتخابات 2018، وهم جان صليبا وشاهين عماد وسليم اسماعيل واعتدال عوض وعلي حجازي وسامية محمود. هم في «6 أيار» للتذكير بالقضية التي تغفلها الدولة


كان عمري 26 عاماً عندما توقفت حياتي. منذ ذلك الوقت، لم تعرف أمي عني شيئاً. لم أترك سوى الألم. لا أعرف إن كانت لا تزال على قيد الحياة، لكنني على يقين أنها تنتظر في كل يومٍ أن أطرق باب البيت عائداً إليها.



ذات صيف من عام 1982، انتهى كل شيء. يومذاك، كنت متجهاً إلى عملي في مجال البناء. تركت ولديّ في المنزل، واعداً إياهما بلعبة حين أعود مساء. حلّ المساء ولم أعد. كبُر الولدان 43 عاماً، وأنا بقيت في الرابعة والثلاثين.



كنت قد أكملت عامي الأول في إحدى الجامعات في موسكو، عندما طلبت مني والدتي العودة للمّ الشمل. في طريقي من مطار دمشق إلى بيروت، اختفيت في مكانٍ ما. لا أعرف إن كنت الوحيدة التي بعثرت الشمل، أم أن الحرب ساقت آخرين من عائلتي.



كنت أضع اللمسات الأخيرة لحفل زفافي، الذي كان من المفترض أن يكون «الأسبوع المقبل». استقليت مع صديقَيْ السيارة، قاصداً بيروت لدعوة عمي وأولاده إلى حفل الزفاف. كان ذلك عام 1982، منذ ذلك الحين لم أصل إليهم. انتهى كل شيء عند حاجز تفتيش. بقي عمري 26 عاماً وبقيت أعزباً. كنت أعمل مصفّف شعر. لا أعرف ما الذي كان عليه عملي ولا حياتي لو أنني بقيت إلى اليوم. ربما، كان لدي أولاد، وربما كنت سأستمتع بقص شعورهم.



ذات يوم من حزيران 1982، تركت أطفالي الخمسة وذهبت إلى بيروت للبحث عن زوجي وابني البكر اللذين خطفا. لم أصل إلى هناك. حدث شيء ما عند حاجز تفتيش وصرت أنا مختطفة. لا أعرف ما الذي حلّ بأطفالي في المنزل ولا كيف كبروا. كل ما أعرفه أنني كنت ملجأهم في صغرهم بعدما فقدوا والدهم. كنت أعمل لإعالتهم. وفي أوقات الفراغ، كنت أطرّز أثواباً وأتبرّع بها لإحدى مراكز الرعاية الاجتماعية.



كنت في العشرين من عمري عندما انتهى كل شيء. يومها، كنت في مطار بيروت، مرافقاً لبعض الأصدقاء الأوروبيين. أقلعت طائرتهم ولم أعد أنا إلى البيت. اختطفت في مكانٍ ما. لم أكن أعرف أنها المرة الأخيرة التي أخرج فيها من المنزل ولا أعود. لم أودّع أحداً. كان شعري طويلاً، وكنت أهتم به. كان جميلاً. هذا ما كان يقوله أصدقائي. وكنت أحب المزاح ولم أحمل يوماً سلاحاً.