ضعيف حضورها على محرّك البحث «غوغل». تختصرها صور فوتوغرافية تنبشها صفحة البلدية عبر «فايسبوك». تلوح في البال عاميّةً، وسكانها فلاحين بقامات منتصبة. تروق لنا مولِد الأخوين رحباني ومشرب إرثهما الطويل. نستحضرها بصوت فيروز صادحاً بتراتيل الآلام من كنيسة مار الياس. تاريخ بلدة فيه شيء من تاريخ البلاد. فسيفساء مصغّرة عن لبنان بتناقضاته وأحوال أهله. ستجد في أنطلياس الكثير. ساحل قضمه العمران. بساتين ليمون وقشطة وأفوكادو وموز زال آخرها قبل سنوات. آثار مهملة. طواحين تصارع الاندثار. جسور عتيقة يُحنيها مسخ الترميم. نهرٌ لا ينضَب تآكله التلوث. صروح دينيّة تعلو وتتوسّع. بيوت أوهى الزمن حجارتها وقرميدها، وشارع حديث يزدحم بالمطاعم.«ما بقي غير الاسمنت»، يقول مختار انطلياس للدورة الرابعة توالياً أنطوان الرموز، متلهّفاً إلى قرية الخمسينيات. الغرفة الأرضيّة التي وُلد فيها، جعلها مكتباً يستقبل فيه السكان الجدد لإنجاز أوراقهم. على الحائط عُلّقت نسخة من ميثاق عاميّة انطلياس الذي وقّعه كلّ من «جمهور الدروز في جبل لبنان، ونصاره، ومتوله واسلام» كما ورد حرفياً فيه بتاريخ 7 حزيران 1840، وفيه أقسموا اليمين على مذبح كنيسة مار الياس بعدم خيانة بعضهم، وشهّدوا القديس وأعلنوه خصماً لمن يخلف.
بين إمضاء وآخر، يتذكّر كيف «كانت انطلياس قرية تعتمد على الزراعة وتربية دود القز». كثر الوافدون إليها خلال الحرب الأهليّة. اشتروا الأراضي وبدأوا البنيان، فتراجعت مساحات الليمون إلى أن اختفت. غُرِّر بالمالكين القدامى، باعوا متر الأرض بـ25 ليرة أو 50 و75 ليرة «بالكتير». «بالدَّجل والغيرة من بعضهم باعوا. اليوم تتراوح قيمة المتر في الشقة بين 1200 و1600 دولار»، أما متر الأرض «فربّك عليم». أساساً، لم تبقَ أرض للبيع، «سكّرت». الباقي من بساتين الليمون تحوّل شارعاً للمطاعم. «كل شيء تغيّر. آخر بستان قشطة أُزيل قبل 3 سنوات وأقيم مكانه مطعم وسوبر ماركت».

بلدة من «نازحين»
باكورة «النازحين» الى انطلياس كانوا من نابيه، من عائلات أبو كرم وسلامة والرموز. ومن بصاليم عائلات بو حبيب، نهرا، مزهر وسليمان. من الفريكه آل غصوب وحداد. من بيت شباب جاء آل مكرزل. من دير الحرف أتت عائلة أبو جودة، ومن عينطورة عائلتا عازار والحاج. وغيرها كثير. كان هؤلاء، قبل أن يسكنوا البلدة، يقصدونها للعمل قبل العودة الى قراهم المتنية ليلاً. لم يكن ساحلها مسكوناً قبل 150 عاماً، إلاّ من الأمراء وأديرة الرهبان. وقتذاك، كان سكان قرى المتن ينزلون إليها للعمل في النهار ويأوون إلى قراهم ليلاً. ولا يبيتون قرب السواحل خوفاً من الملاريا والأوبئة وغزوات القراصنة والحشرات التي تتجمع قرب الماء. وهذا ما يفسّر تشييد قرى المتن لجهة الشرق تفادياً لإطلالتها على البحر بهدف حمايتها.
الرهبان أول من سكن البلدة وأسسوا لأديرة وكنائس تطبع اليوم خريطتها (مروان طحطح)

عام 1914 رست بواخر تحمل اللاجئين الأرمن في برج حمود وصور وانطلياس، وبدأ في الثلاثينيات إعمار كاثوليكوسيّة الأرمن الأرثوذكس كأحد أهم مجامع الأرمن في العالم. الإشارة إلى هذا النزوح ضرورة لفهم التوزّع الديموغرافي لسكان انطلياس الحاليين. إذ شكّل التجمّع المنفرد للعائلات الوافدة من كل قرية نواةً لحيّ طبعته بانتمائها المذهبي. أبرز أحيائها حارة القبيزي، حارة الغوارنة، الفوار، حي البحر أو المنطقة البحرية، الساحة التي تضم كنيسة مار الياس، ومنطقة الأوديون حيث أنشئ المسرح في السبعينيات. أما شارع طرابلس القديم، أي الطريق الداخلي، فوَصَل مدينة بيروت بعاصمة الشمال قبل إنشاء الأوتوستراد في الخمسينيات، وكانت تعبره الأحصنة وعربات الخيل.
لطالما ميّز حضور الرهبان انطلياس. سكنوها وأسسوا لأديرة وكنائس تطبع اليوم خريطة البلدة. كنيسة مار مخائيل للروم الأرثوذكس. سيدة الساحل للروم الكاثوليك. بطريركية كيليكيا للأرمن الأرثوذوكس. مطرانية انطلياس المارونية ودير مار الياس الذي يعود الى القرن الثامن عشر، والكنيسة الأثرية والكاتدرائية للشفيع نفسه الذي يحظى بمكانة خاصة لدى السكان وتقام في عيده احتفالات شعبية تستمر لأيام. إلى كابيلات عديدة. وقد ساهمت هذه الرهبنات، بما فيها الرهبنة الحلبيّة، بتمليك السكان ممن عملوا معها في زراعة الأرض.
لا مجال لفهم تاريخ انطلياس من دون زيارة إيلي يمّين. صاحب أطروحات أربع بينها واحدة عن «انطلياس وأماكنها ــــ دراسة في أرضها وأسمائها» أجراها على مدى 10 سنوات، وتمكّن خلالها من الغوص في أصول تسميات الأماكن الـ47 الأبرز في البلدة. بحماسة ظاهرة وبصوت هادئ، يمرّ يمّين على أسماء شغلت جزءاً من حياته. منطقة «الفَطْم» تعود تسميتها الى موقعها فوق النهر. بما يشبه عملية فطم الرضيع الذي ترفعه والدته إلى صدرها، كان أهل انطلياس يرفعون المياه من النهر بالسلال عبر الدواب لريّ الجلول. «سَقَلْ» هي المنطقة الواقعة قبالة مستشفى السيدة ومار مخائيل. صيفاً هي المكان الأبرد في انطلياس بفضل موقعها في لحف الجبل والأدفأ شتاءً لأنها محميّة من الهواء البارد. تسميتها تعود إلى أيام صناعة سقالات لشجر التوت وتربية دود القز وصناعة الحرير. أما النقّاش التي لطالما كانت وانطلياس ضيعةً واحدة، فـ«تُنسب الى رجل كان ينقش العملة ويزوّرها أيام الدولة العثمانية. وقد أمسك به العثمانيون وقطعوا يديه وبقي يعيش في المكان».

انطلياس ومار الياس
ثمة فرضيات عديدة لتسمية انطلياس. المخيّلة الشعبيّة تربط الاسم بمار الياس أو النبي إيليا. تقول الحكاية إن النبي الذي فرّ من الاضطهاد اليهوديّ، لجأ إلى سهل البقاع. ولمّا لحق به الجيش الى بر الياس هرب الى قب الياس. هناك حوصر، فحفر الصخر واختفى داخل الجبل. وعبر المغاور الجوفية الممتدة من جبل ترشيش حتى انطلياس، تمكّن من الوصول الى نبع الفوار والخروج منه، فسأله الناس: «أنت الياس؟»، ليُشتقّ الاسم من العبارة.
يمّين يميّز بين الروايات الشعبية وتلك المتأتية عن البحث الأكاديمي. الأقرب إلى التصديق، بحسب يمّين، أن «الفينيقيين والكنعانيين أشادوا معبدين لعبادة الإلهة المحاربة عَنات، شقيقة الإله البَعْل عَليان (أَلْيان) وزوجته وفقاً للأساطير. عبادة الإلهين، الأنثى والذكر، كانت تفرض وجود إله ثالث، ارتكازاً الى الإيمان الثلاثي العقيدة. من هنا جاء الإله مَوْت (نهر الموت) ليكتمل بحضوره في الأسطورة ما يُعرف بصراع الآلهة. الأخير أقدم على طعن عَليان وقتله، فحزنت عَنات وقتلت مَوت. لاحقاً عرفت عنات شهرة واسعة وتعاطفاً مع مصابها بفقد شقيقها، خصوصاً لدى الفراعنة، فتداولوا اسمها «أنْتا» وفق لغتهم. تمجيد أسطورة الشقيقين الإلهين تمثل بدمج اسميهما أنتا وأليان فنتج عن ذلك أنتاليا، وأضيف إليه حرف السين لدى الإغريق فصار «أنطالياس». وقد منح الفينيقيون والكنعانيون الاسم نفسه لمنطقة أنطاليا التركية التي تشبه طبيعتها طبيعة انطلياس لجهة الخليج والهضاب والكهوف والسهل الزراعي».
شكّل التجمّع المنفرد للعائلات الوافدة من كل قرية نواةً لحيّ طبعته بانتمائها المذهبي


يشير يمّين الى فرضية ثالثة، «فعندما وصل الإغريق من مقدونيا فُتنوا بلبنان وعبدوا الشمس فيه ولاحظوا مسارها من شروقها إلى غروبها، فشيّدوا ثلاثة معابد للتعبّد بنورها. واحد على سفح السلسلة الشرقية (برالياس) أسموه بارهيليوس لعبادة الشروق، والثاني في قب الياس لعبادة قبة ظهور الشمس وقت القيظ أسموه قابهيليوس. وثالث في انطلياس قبالة المغيب لعبادة الغروب سمّوه انطيهيليوس ومنه اتخذت البلدة اسمها الحالي. هذا المعبد يقع تحت ساحة انطلياس، ولا يزال من آثاره عمود من الغرانيت ظاهر للعيان».

كسار عقيل والمفارقات الصادمة
عاش الإنسان الأول في انطلياس قبل أكثر من 30 ألف سنة، وفق ما وثّقت البعثات الأجنبية المتخصصة في منطقة كسار عقيل والفوار، أي منطقة المغاور في وادي البلدة، قبل أن تأتي الكسارات على تلك الكهوف منتصف القرن الماضي. أما سهل انطلياس فتشكّل من الترسّبات التي كوّنته ليصل بين بيروت التي كانت جزيرة وباقي مناطق الساحل لجهة الشمال.
قبل القرن العشرين، كانت انطلياس أرضاً زراعية، يسكنها الرهبان والأمراء اللمعيون الذين بقي لهم منزل قربه طاحون. بينهم الأمير سليم أبي اللمع وابنه المير جورج أبي اللمع الذي امتلك امتياز شركة الكهرباء قبل أن تشتريه الدولة. تحجب الأعشاب مدافن اللمعيين الى جانب كنيسة مار الياس بلوحات رخامها الأبيض وتغزو بابها الحديدي. وكان لانطلياس بلدية مترامية من نهرالكلب إلى نهر بيروت، ومنصب شيخ تناوب عليه عدد من أبنائها بين عامي 1880 و1920، وبعد مجيء الفرنسيين أصبح الشيخ مختاراً. وفي بداية القرن الفائت بدأت تظهر القرى المجاورة وتستقل عنها.

(مروان طحطح)

يشقّ انطلياس وواديها نهر لا ينضب يتآكله التلوث، ويعود، وفق الأسطورة الكنعانية الفينيقية، الى 7 آلاف سنة. تعلو النهر ثلاثة جسور تاريخية، يعود كل منها إلى نظام حكم مرّ على المنطقة. جسر الإمارة شيّده القائمقام اللمعي اسماعيل أبي اللمع عام 1848 مكان جسر الأمير بشير الثاني الكبير (شيّده عام 1812) الذي أزاله الفيضان، وجسر المتصرفية (قرب كنيسة مار الياس) شيّده المتصرف الثالث رستم باشا مارياني (إيطالي الأصل) سنة 1883 وقد رمّم حديثاً من دون المحافظة على طابعه التاريخي. أما الجسر الثالث، جسر الجمهورية، فيمرّ فوقه طريق انطلياس الداخلي وسط الساحة مخفياً معالم الجسر العتيق، وقد شيّده وزير النافعة ابرهيم بيك الأحدب عام 1927. إضافة الى الجسور، تمتاز انطلياس بطواحينها ومنها: طاحونة السلطنة، الدير، الأب سبيريدون (طُمرت)، النعصة الحديثة، أم حسن المعروفة بالطاحونة الجديدة، أبو حسن، الوادي قرب جسر الإمارة وهي الطاحونة الأهم، الأميرة زينب المعروفة اليوم بطاحونة حنا حليم طعمة. قبل الاستقلال كانت انطلياس أول بلدية على ساحل المتن، تمتد من نهر الموت الى نهر الكلب. اليوم يبلغ عدد ناخبيها المسجّلين 5 آلاف، ومجموع سكانها 50 ألفاً، وتشكّل مع النقّاش بلديّة من 15 عضواً.


عاصي ومنصور: كان الزمان وكان


الإتيان على تاريخ انطلياس من دون التوقّف عند الأخوين الراحلين منصور وعاصي الرحباني يُحسب نُقصاناً. وفق كتاب الشاعر هنري زغيب «الأخوين رحباني: طريق النحل»، وما نقله الصحافي الياس الحداد في كتابه «ذاكرة انطلياس: الزمن الجميل في 1000 معلومة»، تعود أصول حنا عاصي الرحباني، والد عاصي ومنصور والياس، إلى الشوير. وُلد في مصر إثر هروب أهله من البطش العثماني، وعاد فتى إلى بيروت ليسكن في حيّ الرميل في بيروت ويعمل لدى نسيب له كان صائغاً للذهب. كان حنا من «قبضايات» ذلك الزمان، وحُكم عليه بالاعدام بعد إطلاق نار بينه وبين جنود عثمانيين، ففرّ من ولاية بيروت العثمانية إلى ولاية جبل لبنان. اختار السكن في حارة القبيزي في انطلياس، وانتقى منطقة الفوّار وشغّل أحد مقاهيها، مقهى فوّار انطلياس أو كازينو الفوار حالياً، الذي سيشهد لاحقاً أولى وآخر سهرات السيّدة فيروز في مقهى.
جعل حنا من مقهى الفوار ملتقى القبضايات وتشدّد في الحفاظ على الآداب ووضع لهذا الغرض لافتتين على الباب بالعربيّة والفرنسيّة. عمرت المقهى سهرات قراءة الشعر وسماع الطرب، وكان حنا عازفاً ماهراً على البزق. في الأربعين من عمره تزوّج من سعدى صعب، وأنجبا عاصي (4 أيار 1923) ومنصور (17 آذار 1925).
درس الأخوان رحباني في مدارس انطلياس، وسنة واحدة في بكفيا. باع والدهما مقهى الفوار عام 1933 واستثمر «مقهى المنيبيع» في شويّا صيفاً، ومطعماً صغيراً ودكاناً في ساحة انطلياس شتاء. عام 1938 أصدر عاصي مجلّته الأولى «الحرشاية» أسبوعياً، وكان يحرّرها وحده بالمحكية والفصحى، ويدور في نهاية الأسبوع يقرأ منها في سهرات الضيعة بصوت ونبرة مسرحيّين. بعده أصدر منصور مجلّته «الأغاني» من النوع نفسه، أي الأدب والشعر والمسرح. في خريف ذلك العام، حلّ الأب والمؤلف الموسيقي بولس الأشقر على دير مار الياس فكانت نقطة التحوّل في حياة الأخوين رحباني، إذ انضما إلى جوقة شكّلها الأشقر وتتلمذا على يده. راحا لاحقاً يمثلان مقاطع مسرحية بالمحكيّة كتبها صديقهما يوسف ابو جودة ويؤديانها مع رفاقهما على مسرح نادي انطلياس. ثم لحّنا أول أوبرا نثريّة «النعمان الثالث ملك الحيرة» لأستاذهما فريد أبو فاضل ومثّلاها. أطلق عليهما أهالي الضيعة لقب «فرقة بيت الرحباني»، وكانا يصطحبان شقيقهما الأصغر الياس ليعزف على الطبلة ويقدّم المونولوغات الطريفة. كما استعانا بشقيقتهما الكبرى سلوى لتأدية ألحانهما وأطلقا عليها اسماً فنياً هو «نجوى».
تدبّر الأخوان، ودائماً بحسب كتاب الحداد، أمرهما بالعمل بعد أن غمر الطوفان مقهى المنيبيع وكسد العمل في دكان انطلياس. الأكبر أصبح شرطي بلدية والأصغر دخل الأمن العام الفرنسي. وبسبب وظيفة الأمن التي تشترط عدم ممارسة أي عمل آخر كان منصور يضع نظارات سوداء للتخفي أثناء الحفلات. في 1945 دخل الأخوان رحباني الإذاعة اللبنانية، وفي مطلع الخمسينات التقى عاصي بنهاد حداد (فيروز) فتاة الكورس في الإذاعة. بعد 1955 تزوجا لينطلق مشوارهما الفني. يذكر الحداد في «ذاكرة انطلياس» أن فيروز غنّت لأول وآخر مرّة في مقهى سنة 1954 مع عاصي ومنصور في حضور نحو 60 شخصاً. حمل الرحبانيّان انطلياس معهما في أعمالهما، وفي ما كتباه ولحناه ورسماه من شخوص. في أغنية «كان الزمان وكان» ذكرا حنا السكران، وهو الطرابلسي الذي لجأ إلى انطلياس هرباً من عائلته وتستّر باسم حنّا وكان دائماً في حال سك. أما أغنية «تراب عينطورة» (ستي من فوق لو فيي زورا) فكانت عن جدّتهما من عينطورة المتن.
تصدم المفارقات من يريد التقصّي عن انطلياس. كما الكهوف وسواها من المعالم المطمورة كذلك حدث لمنزل الرحابنة المُستأجر. إذ أُزيل وعمد صاحبه إلى إنشاء مبنى عملاق مكانه. يقول المختار انطوان الرموز انه «في عهد الرئيس أمين الجميل وضعوا حجر الأساس لتحويل البيت إلى متحف وبعد أشهر هدموا المنزل. الناس تحبهم وما صنعوه للبنان لم يصنعه أحد. إنهم آخر العظماء».