عندما يُخلي وليد جنبلاط في سن الـ69 مقعده لنجله تيمور (36 عاماً)، وسليمان فرنجيه في سن الـ53 لنجله طوني (31 عاماً)، وقبلهما امين الجميل عندما كان في سن الـ67 عام 2009 لنجله سامي ـــ وفي كلٍ من البيوت الثلاثة دخل الموت كي ينتزع منها ـــ فإن الاستنتاج مستغرب. لم تعتد هذه البيوت، وسواها المماثلة في القِدم السياسية، على فكرة التوريث في الحياة. اذا صحّت عبارة جورج نقاش، اتى وليد جنبلاط في نعش ابيه كمال جنبلاط، وسليمان فرنجيه في نعش والده طوني فرنجيه، وامين الجميل في نعش خاله موريس الجميل ثم في نعش شقيقه بشير، ثم اتى ابنه سامي في نعش شقيقه الاكبر بيار. بذلك يقيم سرّ في الاب المورث اكثر منه الابن الوارث.ليس في الامر غرابة ان قصصاً لا ترتوي في ماضي الوراثة السياسية. لولا مرض حميد فرنجيه عام 1957 لما خلفه شقيقه سليمان في النيابة عام 1960 واستمر، ونجح في ان يصير رئيساً حينما اخفق حميد. عندما عزم امين الجميّل ورشيد كرامي عام 1984 على تأليف ثانية حكومات العهد اقترحا على كميل شمعون وبيار الجميّل توزير شابين في البيت، داني وأحد يسميه رئيس حزب الكتائب كي يتساوى الوزيران المسيحيان الشابان بالوزيرين الشابين الدرزي وليد جنبلاط والشيعي نبيه بري. رفض الزعيمان المارونيان. الاول في سن الـ84 قال: هل نوزّر أولاداً؟ كان داني يومذاك في سن الـ50. اما بيار الجميّل، فرضي بأن يكون وزيراً في حكومة على رأس طاولتها ابنه رئيس الجمهورية وهو في سن الـ42 بينما الاب في سن الـ 79.
ليس مستغرباً ايضاً ان يترشح كميل شمعون عام 1982 للرئاسة في سن الـ82، وسليمان فرنجيه الجد عام 1988 في سن الـ78، ويُنتخب ميشال عون رئيساً عام 2016 في سن الـ81.
اما ما يتجاوز التقاليد هذه كلها، ويقفز فوق ارقامها، فهو الترشّح للنيابة في التسعين.

29 ايار 2014: الصورة الوحيدة التي جمعت مخايل ضاهر بريتشارد مورفي (أرشيف)

تلك حال مخايل ضاهر الذي كسر الرقم الاعلى حتى الآن: قبلان عيسى الخوري حينما ترشح لانتخابات 2000 ـــ حتى ذلك الوقت الاقدم في النيابة منذ عام 1951 ـــ كان في سن الـ89. امضى الولاية الكاملة حتى رحيله عام 2010 عن 99 عاماً.
على امتداد 29 عاماً في نيابته عن عكار ما بين 1972 و2005، ما خلا انتخابات 1996، تقلّب مخايل ضاهر في رئاسة لجان نيابية مهمة كالمال والموازنة والادارة والعدل والنظام الداخلي، على انه اقترن باستحقاق واحد اضحى لصيقه على مر السنوات التالية، هو تحوّله عام 1988 مرشحا توافق واشنطن ودمشق عليه رئيساً للجمهورية. مذذاك لم يعد اسمه ينفصل عن ذلك الاستحقاق الذي دشّن في تاريخ لبنان سابقة الشغور الرئاسي.
ليس سابقة طرحه مرشحاً وحيداً للرئاسة بتلاقي ارادتين خارجيتين قاسمهما المشترك الاميركيون، ولا احد سواه. قبله اتفقوا مع جمال عبد الناصر على فؤاد شهاب رئيساً عام 1958 وحمل اسم المرشح الوحيد الى بيروت ـــ للمفارقة ـــ موفد خاص في العائلة نفسها هو روبرت مورفي. ثم حالتان اخريان بين الاميركيين والسوريين: اولى عام 1976 عندما حمل دين براون اسم الياس سركيس، وثانية عندما حمل ريتشارد مورفي عام 1988 اسم مخايل ضاهر مرشحاً وحيداً.
للرجل الذي سمّته سوريا وحده تاريخ طويل من مناوأتها رغم جيرة مسقطه القبيات مع الاراضي السورية. في 8 ايار 1976، رفض حضور جلسة انتخاب الياس سركيس، معتصماً مع 28 نائباً آخرين قاطعوها في منزل صائب سلام، رافضين «المرشح السوري» مؤيدين ريمون اده. لأيام خلت، طعن مخايل ضاهر في قانونية ترشيح حاكم مصرف لبنان، اذ اعتبر المادة 49 تمنع خوضه الانتخابات الرئاسية ما لم يستقل من منصبه قبل ستة اشهر تبعاً لمضمون المادة آنذاك.
الاشتباك الثاني مع السوريين بانضمامه الى «جبهة الاتحاد الوطني» في 11 تموز 1976 التي طالبت بخروج الجيش السوري من الاراضي اللبنانية. ضمّت الجبهة صائب سلام ورشيد كرامي (قبل ان يغادرها بعد حين) ورشيد الصلح وتقي الدين الصلح (وإن امتنع عن توقيع العريضة) واحمد الداعوق وريمون اده والبر منصور وحسن الرفاعي الى آخرين. سرعان ما تراجع عن هذا الموقف بعد تشريع الوجود السوري في قمتي الرياض والقاهرة اواخر ذلك العام واعلان وضع قوة الردع العربية ـ بمن فيهم الجنود السوريون ـ في إمرة الرئيس اللبناني.
الاشتباك الثالث عام 1978 على اثر الاصطدام العسكري بين الجيشين اللبناني والسوري في الفياضية في 8 شباط. ارغمت دمشق السلطات اللبنانية على اقرار قانون انشاء محكمة ميدانية من ثلاثة ضباط سوريين وضابطين لبنانيين تحاكم الضباط اللبنانيين المتورطين في الصدام العسكري. رفض مخايل ضاهر المحكمة المختلطة وعدّها مناوئة للدستور، اذ يجعل المواطن اللبناني يحاكم امام محاكم وطنية متى ارتكب جرماً على الاراضي اللبنانية، معارضاً تسليم ضباط لبنانيين الى محكمة غالبية اعضائها ضباط سوريون. في الجلسة التصويت على القانون اقترع ضده بينما ايده 73 نائباً.
الاشتباك الرابع كان انتخابات الرئاسة عام 1982 عندما طلبت منه سوريا وسليمان فرنجيه عدم التصويت لبشير الجميّل، الا ان جوابه انه لا يقترع له بل للحؤول دون الشغور الرئاسي، وطلب من سائليه ترشيح اي أحد آخر. ذهب الى جلسة الانتخاب، فأرغمه بعدذاك تهديد سوري مباشر على الانقطاع عن التوجه الى مسقطه اشهراً مع إشعاره بالتعرّض له.
من ثم اتت مرحلة الاقتراب من دمشق. اول الغيث تأييده الاتفاق الثلاثي بين وليد جنبلاط ونبيه برّي والياس حبيقة، ومشاركته مع ميشال اده وفؤاد بطرس والياس هراوي وجوزف سكاف وآخرين في احتفال توقيعه في دمشق في 28 كانون الاول 1985، داعماً الاصلاحات الدستورية التي انطوى الاتفاق عليها. كانت تلك المرة الاولى يزور دمشق نائباً. حفظ له السوريون هذا الموقف، ثم اضافوا اليه تقديراً ثانياً عندما ايّد انتخاب سليمان فرنجيه في جلسة 18 آب 1988 التي لم يكتمل نصابها. كان الرئيس السابق احد ثلاثة فيتوات اميركية لثلاثة مرشحين لم ترضَ بهم واشنطن، الثاني ريمون اده والثالث ميشال عون قائد الجيش. ردّت سوريا باستفزاز اذ رشحت حليفها الدائم. ايده مخايل ضاهر، هو الذي تدرّج في مكتب شقيقه حميد فرنجيه 9 سنوات، وكان محامياً لسليمان فرنجيه ورينه معوض على اثر مجزرة مزيارة عام 1957 مذ فرا الى اللاذقية. في موعد جلسة 18 آب طوقت القوات اللبنانية منازل النواب المسيحيين والمسلمين في المناطق الشرقية، لمنع وصولهم الى قصر منصور عند المتحف. تسلل من منزله في الحازمية في طريقه الى بيروت الغربية من طريق الضاحية الجنوبية، ومنها الى جلسة الانتخاب للتصويت للمرشح الوحيد. فاجأه حاجز للقوات اللبنانية في محلة الكفاءات، فاعتقله وقاده الى شاليه في جبيل يملكه الرائد المنشق فؤاد مالك احتجز فيه، وسط حراسة مشددة الى ما بعد ساعات رفع جلسة الانتخاب. حضر اليه الفرد ماضي ثم كريم بقرادوني طلباً لاخراجه، مع تمنٍ ان لا يفصح انه كان مخطوفاً. رفض. اتى جبران تويني وعاد به في سيارته الى منزله ليلاً قبل ان يفاجئه سمير جعجع بحضوره معتذراً، قائلاً: لا يمكنني القبول بانتخاب سليمان فرنجيه رئيساً. حفظ له السوريون ايضاً ما حدث.
في الشهر التالي كان التحوّل الرئيسي في حياته السياسية. 18 ايلول 1988 اتى مساعد وزير الخارجية الاميركي لشؤون الشرق الادنى ريتشارد مورفي الى بيروت بعد زيارة لدمشق اجرى فيها مفاوضات شاقة مع حافظ الاسد وعبدالحليم خدام طوال 18 ساعة. حمل الى هناك لائحة من اربعة اسماء لم يكن بينها مخايل ضاهر. في خاتمة التفاوض طوى الرئيس السوري لائحة الاسماء الاربعة، قائلاً ان ثمة اسماً آخر مرشحاً وحيداً. وافق على تسهيل الانتخاب بالمرشح الوحيد دونما ان يسميه، مخاطباً الديبلوماسي الاميركي المنهك ان الاسم عند عبدالحليم خدام الذي سماه له: نائب عكار.
ناوأ مخايل ضاهر السوريين ثم اقترب منهم ثم اضحى مرشحهم الوحيد ثم نسوه


لم يكن لريتشارد مورفي سوى ان يُسر بانجاز لا يصدّق، هو انقاذ الرئاسة اللبنانية ثمرة توافق اميركي ـ سوري على تفادي شغور رئاسي محتمل، بعد اربعة ايام فقط، مع انتهاء ولاية امين الجميل في 22 ايلول.
عاد مورفي الى بيروت وشرب في مقر السفارة في عوكر الشمبانيا احتفاء، قبل ان يجتمع برئيس الجمهورية والبطريرك نصرالله بطرس صفير، ويوفد معاونه دافيد نيوتن والمستشار الاول في السفارة دانيال سمبسون الذي تولى تدوين محضر الاجتماعات الى قائد الجيش وسمير جعجع يخطرهما بالاسم مرشحاً وحيداً للرئاسة تقبل به دمشق. وافق الرئيس الجميل، ورفض البطريرك وقائد الجيش وقائد الميليشيا المسيحية «تعييناً» تفرضه سوريا على لبنان.
نام مخايل ضاهر رئيساً، كما كثيرون منذ عام 1943، الا انه لم يُنتخب ابداً. تصرّف على ان وصوله الى المنصب ـ ثمن توافق ارادتي دولتين مقررتين في لبنان هما الولايات المتحدة وسوريا ـ تحصيل حاصل. لكن الرفض المسيحي كان اقوى منهما. لم يفقد الامل سوى في لحظة وقوع الشغور الرئاسي.
مذذاك لم يعد يُطرح اسمه في اي استحقاق رئاسي الى اليوم. كأنها الفرصة النادرة التي تأتي مرة واحدة، خلافاً لآخرين منذ عام 1988 حتى الامس القريب، كريمون اده وميشال اده وجان عبيد وبطرس حرب ونسيب لحود وميشال عون، كانوا ينتظرون هبوطها في كل استحقاق. السوريون انفسهم، النافذون ما بين عامي 1988 حتى مغادرتهم لبنان عام 2005، لم يأتوا على ذكره مرة ثانية في ما بعد من بين اسماء سموّها للرئاسة اللبنانية، ولا عوّضوه.
في لقاء حلّ فيه ضيفاً على «مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية» بدعوة من مديره عبدالله بوحبيب، 12 حزيران 2013، شرح ريتشارد مورفي صحة ما نُسِب اليه عام 1988 انه خيّر اللبنانيين، والمسيحيين خصوصاً، بين «مخايل ضاهر او الفوضى». قال: «كان الاميركيون ينظرون الى الوضع عامي 1986 و1987، ويرون ضرورة اجراء الانتخابات في ظل الدستور في ايلول 1988. ماذا كان سيحصل؟ من البساطة الافتراض ان رئاسة الجمهورية هي المؤسسة السياسية الوحيدة العاملة. لم يشكل ذلك قلقاً للسوريين، وتميّز موقفهم بالازدراء بالساسة اللبنانيين عموماً. لم يكترثوا لاجراء الانتخابات او عدمها. كانوا مسرورين بزيارات كثيرين من المرشحين آتين من بيروت، اراد كل منهم ان يشرح لهم كيف يسعه ان يكون افضل مرشح. كانوا يختبرونهم ويغربلونهم. هناك مؤسسة يجب المحافظة عليها ودعمها إن امكن. حجة لم تلق اصداء في دمشق. ناقشناها في زيارات عدة. تقدّمت اسماء كثيرة لم اكن على دراية بها، لكنها اسماء قادة اظهروا انهم مرشحون جديون للمنصب. لكن دمشق ادارت ظهرها لهم، ولم تكن مهتمة بأي منهم. اخيراً وصلت الرسالة: اذا كانت الانتخابات ستحصل، يجب ان يكون هناك مرشح واحد. الا ان منطق المرشح الواحد لم يتفق مع النموذج اللبناني. على كل حال كان اسم مخايل ضاهر الوحيد الذي ظهر. لم اكن قد التقيت به، واجتمعت به للمرة الاولى لاحقاً بعد حوالى خمس سنوات. كنت خارج الحكومة ولم يكن قد انتخب رئيساً للبنان. الملاحظة التي يُزعَم انني قلتها، ولا اذكر انني قمت بذلك، انه إما ضاهر او الفوضى، بدت مثيرة للشفقة لأنكم مررتم بعامين اضافيين من الفوضى. قال تلك الجملة مسؤول في السفارة دانيال سمبسون في ملخصه، بينما كان يدوّن الوقائع خلال الاجتماعات».



المرة الاولى
رغم حمله الاسم، لم يكن ريتشارد مورفي عرف قبلاً مخايل ضاهر او ابصره. الا انه اجتمع به مرتين من خلال سفيرين للبنان في واشنطن هما نسيب لحود وعبدالله بوحبيب. بفارق 22 عاماً نسي ريتشارد مورفي في اللقاء الثاني عام 2014 اللقاء الاول عام 1993.
بانقضاء خمس سنوات على استحقاق 1988، صدف ان التقى مخايل ضاهر في مطعم بناية «صوفيل» في الاشرفية، حيث مكتبه، بنسيب لحود يرافقه شخص طويل القامة. اقترب من مخايل ضاهر قائلاً: معي ضيف. من المؤكد انك تعرفه؟
تصافحا، فلم يعرف احدهما الآخر.
قال نسيب لحود لمخايل ضاهر: انه ريتشارد مورفي. ألا تعرفه.
كلاهما ردّ سلباً.
ثم نظر الى الشخصية الاميركية قائلاً: انه مخايل ضاهر.
ردّ فعل المسؤول الاميركي المتقاعد منذ عام 1989: هذا انت.
ثم كان لقاء ثان، فيه إلتقطت الصورة الوحيدة لهما.
في تدشين «معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية» في الجامعة الاميركية في بيروت في 29 ايار 2014، اجتمع الرجلان مجدّداً. حضر ريتشارد مورفي بصفته عضواً في مجلس امناء الجامعة. بدوره حضر مخايل ضاهر بدعوة من عصام فارس يرافقه السفير في واشنطن ابان استحقاق 1988 عبدالله بوحبيب الذي سأل ريتشارد مورفي هل التقى قبلاً مخايل ضاهر.
ردّ بالنفي.
سأله هل يرغب في لقائه؟
ردّ بترحيب.