مع حلول موعد الانتخابات النيابية يوم غد، وبعد مرور نحو 9 سنوات على إجراء الانتخابات الأخيرة في حزيران 2009، يكثر الحديث عن هذه المحطة السياسية والدستورية، ويتصاعد النقاش، بل الجدال، بشأن مختلف مراحل هذه العملية والكثير من مندرجاتها وتفاصيلها. بيد أن أسوأ ما في هذا الموضوع، أن هذا النقاش السياسي، وكذلك إدارة الحوار والمنافسة، والنقاش نفسه، على مختلف المستويات أو الصعد السياسية والشعبية والنخبوية، لم يرتفع إلى درجة الوعي السياسي والوطني الذي تقتضيه الحياة السياسية في زمن الانتخابات، كما في مجمل الأوقات والأزمنة والمحطات، أو الاستحقاقات الوطنية والدستورية.من الملاحظات التي لا بد لنا من أن نتوقف عندها، عند مقاربة المشهد الانتخابي بكامله، ظاهرة تغليب أو غلبة العصبيات الفئوية، على اختلاف تجلياتها ومظاهرها، الطائفية والمذهبية والإقليمية، أو المناطقية والمحلية، وحتى العائلية، والعشائرية والقبلية، على الحسابات الانتخابية، كما السياسية ذات الصلة. وهي ليست، في الحقيقة، ظاهرة جديدة، أو لنقل مستجدة، بل إنها حال اللبنانيين، جميعهم، أو معظمهم، منذ سنين طويلة، بل منذ عقود متتالية. بكل الأحوال، إن الإضاءة على هذه المسألة، ألا وهي رجحان كفة الاعتبارات أو الانتماءات الفئوية، أو العصبية، ومن بينها أيضاً الحزبية والسياسية، غير السوية وغير الصحية، يمكنها، في مكان ما، وإلى حد ما، بطبيعة الحال، تفسير ظاهرة أخرى، وهي في غاية الأهمية والخطورة، ألا وهي تصاعد نبرة الخطاب السياسي والانتخابي الفئوي، وخاصة الطائفي والمذهبي، وما ينطوي عليه هذا النمط من الخطاب من مفردات وأشكال التحريض والتعبئة في زمن الانتخابات، وفي بلد يعيش، في الأساس، أزمة وطنية، حادة ومزمنة، في الحكم والهوية.
مع موعد الانتخابات، تبدأ حفلة المزايدات والسجالات والمناكفات


فمع موعد الانتخابات، تبدأ حفلة المزايدات والسجالات والمناكفات في ما بين السياسيين والقوى من قبيل تسجيل النقاط والحشد، أو «التحشيد»، وشدّ العصب على الطريقة اللبنانية! وهو الأمر الذي يفسّر، بدوره، نوعية المفردات والعبارات واللغة المستخدمة، والتي لا تمتّ، في كثير من الأحيان، إلى العقلانية والرؤية المسؤولة والوطنية بصلة، بل تجافي الواقع، وتحاكي الغرائز من كل حدب وصوب... قد تكون بعض هذه المزايدات أو «العراضات» مشروعة ومقبولة في غمرة المنافسة السياسية السلمية، وفي إطار العملية الانتخابية الديمقراطية؛ ولكنها عندما تبلغ سقوفاً مرتفعة ومستويات متقدمة من التصعيد والتأزيم، بما يتهدد الأمن والاستقرار والوحدة الوطنية وسلامة ولحمة النسيج الوطني والاجتماعي، فإنها تغدو فاضحة و«ممجوجة» وخطيرة، بل وربما قاتلة!
هذه الملاحظة التي نسجّلها، والتي تتكرر، بالطريقة نفسها، في مختلف الانتخابات النيابية، وفي غيرها من المحطات أو الاستحقاقات المهمة والعامة، تحيلنا بدورها على ملاحظة أخرى، لا تقلّ عنها لجهة الأهمية والخطورة، ألا وهي مسألة غياب، أو بالأحرى تغييب، لغة العقل التي يفترض أن يتحلى بها الجميع ويلتزموها، ولا سيما بظلّ الأجواء السياسية المشحونة، التي تطاول، بشكل أو بآخر، نجاح العملية الانتخابية نفسها وتهدد سلامتها أيضاً. فغياب لغة العقل أو تغييبها، أو أقله تراجع منسوب الاحتكام إلى مثل هذه اللغة، وبالتالي الالتزام، على هذا الأساس، بالقاعدة المنطقية في مقاربة الأمور، سواء أكان من قبل بعض القادة والزعماء السياسيين، أم العديد من المرشحين، أو حتى «المواطنين» والناس العاديين في الشارع، أي الرأي العام، يؤدي إلى تعذر، وربما انعدام، المفاضلة والاختيار على أساس البرامج والخيارات السياسية بين المرشحين والأحزاب والقوى السياسية. وهي مشكلة لا يمكن التغاضي عنها، أو التقليل من أثرها ومضاعفاتها. فبدلاً من أن يكون التنافس والاقتراع على أساس الرؤى والطروحات والاتجاهات السياسية، في كل ما له صلة بتطلعات الناس واحتياجاتهم ومطالبهم، وفي مختلف المواضيع، وخاصة الأساسية، كمشروع بناء الدولة، ومكافحة الفساد السياسي والإداري والمالي، وتحديات التنمية الشاملة والإنماء المتوازن، والمقاومة واستراتيجيا الدفاع العسكري، بل الاستراتيجيا الوطنية للدفاع، بكل مندرجاتها ومضامينها وأبعادها، والقضايا الاجتماعية والاقتصادية والمعيشية، وغيرها من التحديات والملفات الملحّة، فإن المشاركة في الانتخابات، أو الامتناع والإحجام عن المشاركة، وكذلك التصويت لهذا المرشح أو ذاك، ولهذه اللائحة أو تلك، وبالتالي التموضعات والاصطفافات السياسية، كل ذلك، إنما يجري على أساس الانتماءات والولاءات والتبعيات الفئوية، بما يعكس واقع الانقسامات العمودية في البلد وعلى الساحة السياسية، وفي أجواء من النكد والكيد السياسيين...
والأخطر والأسوأ من كل ذلك، هو ظاهرة شيوع المال السياسي وانتشاره بين الناس، في زمن الانتخابات، بغزارة، ودون رقيب أو حسيب. وهو الأمر الذي يحيلنا على أحد أبرز وأفظع وجوه وأشكال الفساد السياسي والمالي في هذا البلد. فالمال السياسي والانتخابي هو حقيقة قائمة على أرض الواقع؛ وهي حقيقة متجذرة ومتكررة؛ وقد ترسخت في العقول والأذهان، والذاكرة السياسية الجماعية للبنانيين، نتيجة التكرار في الممارسة السياسية، إن في زمن الانتخابات، أو في مجمل مراحل ومحطات الحياة السياسية والوطنية، كما نتيجة انعدام أو غياب الرقابة والمحاسبة. إن الإشارة إلى ظاهرة تسلل المال السياسي إلى العملية الانتخابية يضرب أولاً صدقية الانتخابات، حيث يقودنا إلى التشكيك في صدقية النتائج التي تتمخض عنها وصحتها، ويطرح علامات استفهام حول مدى ديمقراطية الانتخابات التي ينادي بها العديد من الجمعيات أو المنظمات المحلية والوطنية والأجنبية؛ ويفتح ثانياً الباب على مصراعيه أمام التدخلات السياسية، وغير السياسية أيضاً، فيها، ومنها التدخلات الخارجية التي تفقدها المزيد من الصدقية والنزاهة. فالمال السياسي الذي يُرصَد إبان الانتخابات النيابية لا يقتصر، من حيث المصدر، أي مصدر التمويل، على المرشحين والسياسيين اللبنانيين، بل يتعداهم إلى بعض الأطراف أو القوى الخارجية، الدولية والأجنبية، وخاصة الإقليمية، العربية وغير العربية، والتي تسعى، من خلال ضخ المال السياسي في السوق الانتخابي اللبناني، إلى إعادة رسم خريطة التحالفات والتوازنات والحسابات السياسية والانتخابية وصوغها. بناءً عليه، إن وجود المال السياسي بهذا الشكل، مع الإشارة إلى أن القانون الانتخابي الجديد لم يقفل الباب على هذا الصعيد، بل يزيد من الطين بلة، يعني، بشكل أو بآخر، انتشار الرشاوى المالية وعمليات شراء الأصوات وبيعها، كما الارتهان والاستزلام وضياع الفرصة في إمكانية المساءلة والمحاسبة. إن الحديث عن المال السياسي يقودنا، في جميع الأحوال، إلى التأكيد أن وجوده وشيوعه بهذه الطريقة المتفلتة، وبهذا الشكل الواسع، إنما يعكسان حالة من الجهل والتخلف وضعف الحسّ بالمسؤولية الوطنية والسياسية، في مكان ما، حيث يرتضي الناخبون والمقترعون، ومن قبلهم المرشحون والسياسيون، حدوث مثل هذه الارتكابات، وبالتالي تسجيل مثل هذه الخروقات أو المخالفات، أقله من الناحية القانونية والنظرية.
هكذا تتراجع، بل تنعدم، إمكانية المساءلة والمحاسبة من خلال الاقتراع والمشاركة في الانتخابات، وتغدو مستحيلة. فالناس، على اختلاف انتماءاتهم الطائفية أو المذهبية أو الحزبية أو المحلية، وتحت وطأة الضغوطات التي يحدثها التصعيد في الخطاب السياسي الفئوي أو الجهوي، التعبوي والتحريضي، الطائفي والمذهبي، والاحتقان في الشارع، أو «الشوارع»، لا يرون في الانتخابات فرصة أو مناسبة لمساءلة المسؤولين السياسيين ومحاسبتهم، كما كان يفترض، أقله نظريّاً، وذلك بعد إجراء مراجعة وتقييم للتجربة التي تشارف على الانقضاء، والصفحة التي ستطوى عما قريب، ومعها الكثير مما يمكن أن يقال. هذه هي الحقيقة. الناس ليسوا بصدد التقييم بقصد التقويم، والمراجعة من أجل الفصل، والمساءلة كما المحاسبة؛ بل هم منشغلون بتصفية حساباتهم البينية الوهمية، المتراكمة والمتفاقمة! وهم أيضاً منغمسون في شبكة أو منظومة من العلاقات السياسية الزبائنية، وهو الأمر الذي يعطل إمكانية الاستفادة من هذه المناسبة وهذه الفرصة لمراجعة الفترة الماضية وتقويم الأداء الحكومي والحكم على أهل الحكم من الساسة والمسؤولين. في الواقع، الناس لا يجددون الثقة لمن كان أهلاً لها، ويحجبونها عمّن تخلف عنهم، وثبت أنه مقصِّر أو متخاذل أو ربما مرتكب؛ بل إنهم يعيدون الكرة، وكما في كل مرة، دونما إدراك أو وعي أو مسؤولية! فهم يجددون الثقة المطلقة والعمياء بتلك الطبقة السياسية نفسها، برموزها و«أعلامها» وأركانها، ويمنعون بذلك التجديد أو التحديث أو التغيير السياسي، الذي لطالما كانوا يصبون إليه وينادون به! فعجباً لهم ولأمرهم! بل عجباً لنا كيف أننا لا نجيد استخلاص العبر ودراسة التجارب وعدم تكرار الأخطاء والوقوع فيها؛ فترانا نجدد مرة أخرى البيعة والولاء والتبعية على قاعدة غاشمة من العصبية الرجعية والفئوية البائسة، انتقاماً لأحقادنا الدفينة وهواجسنا العفنة وغرائزنا المحركة لسلوكنا وممارستنا السياسية...
فالمشكلة ليست فقط في الطبقة السياسية وحدها، التي اعتادت واستسهلت «استزلام» الناس واستتباعهم ضمن إطار شبكة مركبة ومعقدة من الزبائنية السياسية، حيث يتحالف الإقطاع التقليدي والرجعي مع المال السياسي، كما أمراء الطوائف والمذاهب الزمنيون والروحيون، في ظاهرة غريبة ومفارقة فريدة من نوعها! كذلك، ليست المشكلة في قانون الانتخابات، أو النصوص القانونية الناظمة والراعية للعملية الانتخابية، على أهميتها في ما يخصّ صحة ودقة التمثيل الشعبي والتعبير عن الرأي السياسي! إنما المشكلة في أن الناس ارتضوا الخضوع والاستكانة والانخراط في هذه المنظومة من الفساد والتبعية. هذه هي الحقيقة التي لا يمكننا السكوت أو التغافل عنها. الناس، جميعهم، يتحملون مسؤولية سوء الأوضاع والأحوال والظروف السياسية وترديها، واستمرار ذلك أيضاً؛ ذلك أنهم لا يمارسون حقهم الديمقراطي، كما يجب، أو أنهم لا يملكون الوعي السياسي، بما يكفي؛ وكلاهما صحيح؛ فكما تكونون يولّى عليكم...
* أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية