لم تكد تصدر نتائج الانتخابات النيابية في دائرة الشوف ــ عاليه، حتى بدأت مرحلة سياسية جديدة في جبل لبنان الجنوبي. غير أن نتائج المعركة الانتخابية تحمل دلالات كثيرة ترسم معالم التجاذب المقبل في الجبل، مع إثبات وليد جنبلاط مرة جديدة، تقدّمه في زعامة الدروز اللبنانيين بحصده سبعة نوّاب دروز من أصل ثمانية (ثلاثة منهم في الشوف ــ عاليه، واحد في بيروت، واحد في بعبدا، واحد في البقاع الغربي وراشيا، والنائب أنور الخليل في حاصبيا ولو أنه ينضوي في كتلة الرئيس نبيه بري)، واجتيازه الامتحان الأوّل لتوريث ابنه تيمور جنبلاط.ومع استمرار تقدّم جنبلاط درزيّاً، إلا أن زمان انتهاء الأحادية أو الثنائية في الشوف قد هلّ، أوّلاً، مع إثبات وئام وهاب قوّة لا يستهان بها، كادت أن تحرم مروان حمادة من مقعده النيابي، وهذا يرتب على جنبلاط حسابات جديدة. وثانياً، مع دخول العهد إلى الجبل الجنوبي، ونجاح التيار الوطني الحرّ في حصد ثلاثة مقاعد مارونية في هذه الدائرة من أصل خمسة.
لكنّ المقلق، أن المعركة اكتست طابعاً طائفيّاً جزئياً، يعكس عمق التجاذب الحاصل بين عون والزعامة الجنبلاطية، في نسخة جديدة من الصراع التاريخي بين الدروز والموارنة في الجبل، وترابطها اليوم مع تكوّن جبهة معارضة عريضة للعهد، عمادها جنبلاط في الجبل ونبيه برّي في بيئته، وتمتدّ إلى الشمال مع تيار المردة ونجيب ميقاتي.
وبانتظار الأرقام التفصيلية وتوزّع أصوات الناخبين على اللوائح المتقابلة، أمكن الخروج بعدّة خلاصات أوليّة، شكّل بعضها مفاجأةً للجميع، كتلك التي فجّرها وهّاب، فيما بدا أرسلان في موقع متراجع، بعد أن تقدّم عليه أكرم شهيب في الشويفات، معقل الزعامة الأرسلانية.
أعاد الحزب الاشتراكي، مع ماكينته المنظّمة وقوتّه التجييرية وقدرته على توزيع الأصوات التفضيلية، تجديد «شرعيته الدرزية» وتأكيد قبول المزاج العام لتوريث تيمور جنبلاط. ولو أن وليد جنبلاط، للمرّة الأولى، اضطر للقيام بجولات في غالبية القرى لشدّ العصب، رداً على الخطاب التحريضي لبعض رموز التيار الوطني الحرّ في الجبل خلال الأسابيع الماضية، لتأكيد نيّة عون محاصرته، وإيصال تيمور جنبلاط ضعيفاً إلى المجلس النيابي. غير أن هذا الخطاب، في مقابل خطاب التيار الوطني الحر، أتى بنتائج عكسية على جنبلاط في القرى المسيحية. إذ انقسمت أصوات المسيحيين بين لائحة العونيين، وبين لائحة «المصالحة» (لائحة تحالف جنبلاط ـ القوات ـ تيار المستقبل)، لكن مع صوت تفضيلي لمرشّح القوات اللبنانية النائب جورج عدوان، الذي سجّل رقماً مرتفعاً، من دون نيل مرشّحي الاشتراكي أرقاماً تذكر في القرى المسيحية.
وهذه النتائج، تثبت أنّ المصالحة التي رعاها البطريرك نصرالله صفير قبل أقل من عقدين من الزمن، بقيت شكليّة وستبقى، ما لم تقترن بالعودة الحقيقية إلى القرى، وإيجاد مساحة اجتماعية واقتصادية مشتركة في الجبل تكسر موروثات الماضي، فيما أثبتت القوات اللبنانية حضورها القوي والتزام ماكينتها بمرشّحها من دون غيره، بتقدّمه على غالبية المرشّحين المسيحيين في هذه الدائرة.
أعاد جنبلاط تجديد «شرعيته الدرزية» وتأكيد قبول المزاج العام لتوريث نجله تيمور


أمّا وهّاب، ومع اقترابه وحيداً من دون أي تحالف انتخابي جدّي، من نيل الحاصل الانتخابي الأوّل في الدائرة بنيل لائحته 12796 صوتاً، بفارق حوالي 240 صوتاً عن الحاصل الأول، ونيله 7340 صوتاً تفضيلياً، متفوّقاً على حمادة، الذي نال 7266 صوتاً، كذّب كل التوقعات التي شكّكت بقدرته على تحصيل أرقام مرتفعة درزياً، مع نيله ما يزيد على 5000 صوت درزي، وتمكّنه من نشر مندوبي ماكينته في أقلام القرى التي تعد معقلاً للاشتراكيين، فيما صبّت بلدته الجاهلية، أكثر من ألف صوتٍ له. وحدهما ماكينتا الحزب الاشتراكي والقوات اللبنانية، كانتا تتحسبان لوهّاب، فيما كانت ماكينة التيار الوطني الحرّ ــ الحزب الديموقراطي تحسب لوهّاب ما لا يزيد على ثلاثة آلاف صوت درزي. غير أن وهّاب، وباعتراف الاشتراكيين، حقّق تقدّماً كبيراً خلال السنوات الماضية وفي الفترة الأخيرة سجّل نشاطاً ملحوظاً خدماتياً واجتماعيّاً في الساحة الدرزية، على رغم خطابه عالي السقف إلى جانب المقاومة وسوريا خارج المزاج العام لدروز الجبل منذ عام 2005. واستفاد وهّاب إلى حدّ ما من أصوات الحزب السوري القومي الاجتماعي، بعد أن شعر القوميون بانقلاب أرسلان عليهم، جراء رفضه ترشيح مرشّح درزي إلى جانبه في عاليه هو المنفذ العام للحزب القومي في عاليه حسام العسراوي، ولاحقاً بعد الاستمرار في ترشيح وسام شرّوف في حاصبيا في لائحة تحالف الحريري ــ الوزير جبران باسيل.
ومع أن وهّاب، حمّل حزب الله جزءاً من المسؤولية عن خسارته، إلّا أن الأرقام تشير إلى أنه نال ما لا يقل عن 1000 صوت شيعي، فيما نال أكثر من 300 صوت سنّي من المحسوبين على حزب الله، الذي اضطر إلى تقسيم أصواته بين لائحة وهّاب ولائحة المصالحة، مانحاً أصواتاً إلى اللواء علي الحاج في الشوف وأرسلان في عاليه. وليل أمس، عقد لقاء بين وهّاب وموفدين من حزب الله، جرى فيه تقييم النتائج وتوضيح الأمور العالقة. وبحسب مصادر في قوى 8 آذار، فإن وهاب كان يؤكّد قبل أيام من الانتخابات، أنه تجاوز الحاصل الأول وأنه يعمل على رقم أكبر، ما دفع حزب الله إلى الاطمئنان على أرقامه، فيما انقسمت الأصوات الشيعية في غالبية القرى في الشوف، بين لائحة وهّاب ولائحة جنبلاط، الذي مدّه برّي بأصوات حركة أمل لدعم النائب نعمة طعمة، المهدّد من مرشّح التيار الوطني الحرّ غسان عطالله.
في المقابل، كسب أرسلان تحالفاً سياسيّاً مع التيار الوطني الحر، الذي كان ينقصه الحضور الدرزي لإكمال مواجهته مع جنبلاط في الجبل لكنّه فشل أوّلاً، في إثبات قدرته على الفوز وحيداً في مقعده النيابي في عاليه، خصوصاً بعد أن أظهرت الأرقام حصول شهّيب على ضعف أصواته التفضيلية، وقدرة الاشتراكي على إنجاح مرشّحه الماروني هنري حلو ورفد مرشّحه الخاسر راجي سعد بأصوات تفضيلية أخرى. إضافة إلى وقوع أزمة حقيقية مع الحزب القومي، حليفه منذ عقود، وامتعاض حزب الله وحركة أمل من تحالفه مع الحريري في حاصبيا ومساعدة مرشّح الحريري على تعويم مرشّحه عماد الخطيب، في وجه المرشّح البعثي قاسم هاشم. ولكي يزيد الطين بلّة، قال أرسلان أول من أمس إنه يفكّر ما إذا كان سيصوّت لبرّي رئيساً لمجلس النّواب، وأنه سيدرس الأمر مع الحلفاء، أي التيار الوطني الحر!
على مقلب التيار الوطني الحرّ، لم تأت نسبة الاقتراع المسيحية كما كان يشتهي. وعلى رغم تقدّم غسان عطالله في غالبية الأقلام المسيحية على النائبين ماريو عون وفريد البستاني عدا عن تقدمّهما عليه في بلدتيهما الدامور ودير القمر، إلا أن ترتيب الأصوات التفضيلية على لائحة جنبلاط، سمح بفوز لائحة العونيين بالمقعدين المارونيين بدل المقعد الكاثوليكي، الذي كان باسيل يصرّ عليه. غير أن النتائج، فتحت للتيار الوطني الحر باباً للعودة السياسية إلى الجبل عبر نائبين مارونيين، وهو ما لم يكن متوافراً طوال السنوات الماضية. كما استطاع سيزار أبي خليل، حصد أصوات التيار الوطني الحر المسيحية متقدّماً بأشواط على زميله المرشّح إيلي حنا، وحقّق بعض الاختراقات في الساحة الدرزية.
أمّا تيار المستقبل، فأثبت تراجعاً ملحوظاً عن الدورة الماضية، في ظلّ الأرقام التي سجّلها اللواء الحاج، تحديداً في بلدة برجا. لكنّه أثبت قدرته على تجيير أصواته وتوزيعها بين النائب محمد الحجّار، الذي حلّ ثانياً في اللائحة، وبين الوزير غطاس خوري، الذي نال أصواتاً سنيّة، وأصواتاً مسيحية قليلة. فيما اكتفت الجماعة الإسلامية بدعم مرشّح جنبلاط النائب بلال عبد الله، الذي نال أصوات الحزب الاشتراكي في الإقليم كما كان مقدّراً له من قبل ماكينة الاشتراكي. وعلى رغم التراجع الاشتراكي في إقليم الخرّوب، إلّا أن الحزب أعاد تأكيد حضوره في الإقليم.