يُحكى أنه، قبل أيام، اعتصمت مجموعة من أصحاب مكاتب استقدام العمال الأجانب، بدعوة من نقابتهم، أمام وزارة العمل، مطالبين بتنظيم «القطاع» وغربلة الفاسدين. ويُحكى، أيضاً، أن أحد موظفي الوزارة أطلّ برأسه من إحدى نوافذ «فوق» مبتسماً لـ«السماسرة» المعتصمين مع «اللي تحت». هذه الحادثة ليست عابرة، وإنما هي صورة واضحة عن شكل «المنظومة» التي تحكم قطاع «تجارة الرقيق» هذا، المشرّعة أبوابه على الفساد منذ العام 2011.الأسبوع الماضي، وللمرة الأولى، اعتصم أصحاب مكاتب استقدام العمال الأجانب أمام وزارة العمل. هناك، سردوا بعض حكايا القطاع الفاسد. بعض وجوهه. وبعض الأساليب التي يتعاملون فيها بطريقة لاشرعية، على عين القرار 168/1 الذي ينظّم عملهم. كان الاعتصام أشبه بجلسة نميمة في العلن. وكان يمكن أن تبقى النميمة «داخلية». لكن، على ما يبدو، ثمة من بات يقاسم على «الرزق»، بعدما فاق عدد المكاتب التي تحمل تراخيص من وزارة العمل الـ524. أضف الى هؤلاء السماسرة ونواطير الأبنية... وموظفين في الوزارة نفسها التي يُفترض أن تسهر على تطبيق القرار!
الحديث مع صاحب أحد المكاتب المرخّصة يبدأ من الصيت الذي يلاحقهم. من «السوق السوداء» و«شغلة اللي ما إلهن شغلة»، لينتقل إلى «تضخّم القطاع». هنا، تبدأ جردة الفساد، وفي مقدّمها «تأجير الرخص» الذي كان محور الاعتصام. هذا يعني «أنني كحائز على رخصة يمكن أن أؤجرها لأيٍ كان لاستقدام عمال أجانب بعد الإستحصال على موافقات مسبقة من وزارة العمل». وهذه مخالفة أولى للقرار الذي يمنع «بيع أو تأجير أو استثمار رخصة المكتب (...)». المخالفة الثانية التي يمكن تعميمها على غالبية المكاتب تتعلق بطريقة الإستحصال على الرخصة. هنا لا يهمّ كثيراً استيفاء الشروط «من تملك شقة أو إيجار أو تعهّد باحترام القرار 168/1 والقوانين...». ما يهمّ هو «السندة»، فغالباً ما تكون هذه الرخص «بمثابة رضوة من المتعاقبين على وزارة العمل أو من خلال الإستعانة بالواسطة لدى المحظيين».
تأجير الرخص أوّل الحلقة التي تجلب الكثير من الرزق. امتلاك رخص أكثر يعني زيادة «كوتا» المعاملات التي تسمح بها وزارة العمل، بمعدّل 300 معاملة سنوياً للرخصة. أحد أصحاب المكاتب يملك رخصته ويدير 4 أخرى، ما يعني أن لديه 1500 معاملة سنوياً. هنا، يفصّل أحد أصحاب المكاتب كيف يصرّف الفائض في المعاملات: «يصبح باستطاعة مستأجر تلك الرخص أن يجد مورداً آخر للربح، وهو بيع الموافقات المسبقة»، أو ما يصطلح على تسميتها «مسبقات». هذه الورقة التي تكلف بين 40 و50 ألف ليرة، تباع للزبائن بما يراوح بين 50 و100 دولار... واختلاف التسعيرة يعتمد أساساً على درجة «فهم» الزبون ومدى اطلاعه على المنظومة.
بيع «المسبقات» يأتي «بالتنسيق» مع بعض الموظفين ــــ السماسرة في الوزارة. وهنا، «كل سمسار مكتب قائم بذاته». لكن، ليس كل سمسار «قادراً على ضمان حق الزبون. فإذا هربت العاملة أو العامل إلى من يرجع المواطن؟». لا إجابات. إلى ذلك، هناك احتمالات «الهروب المدبّر» بوساطة كفلاء وهميين. إذ يمكن استخدام صورة بطاقة هوية لأي كان لتسجيل عامل أو عاملة منزلية على اسمه، لاستغلال العاملات والعاملين في العمل وفق نظام الساعة أو «في شركات التنظيف». وهنا، مخالفة أخرى للقرار، حيث تستغل الشابة التي تأتي «تحت خانة الخدمة المنزلية» كعاملة تنظيفات بالراتب نفسه، بغض النظر عن الفوارق في الفئات الوظيفية، بحسب قانون العمل.
«اصعدوا إلى الطبقة الأولى من الوزارة واسألوا كيف فيكن تجيبو عامل، رح تلاقو دغري حدا يظبط الوضع انتو وواقفين»


الحلقة لا تنتهي. ثمة أمور لا يفضحها أصحاب المكاتب كي لا تضرّ «المصلحة». ولكن، ثمة قصاصة صغيرة يتداولونها في ما بينهم تتحدث عن مخالفات بالجملة في هذا القطاع، من بينها: مؤسسة تملك فرعاً في بيروت وآخر في بنت جبيل؛ شركة تديرها ك. ح. بالنيابة عن صاحبة الرخصة س. ج. تتقاضى رواتب العاملات في أول ثلاثة أشهرٍ من عملهن؛ م. خ. صاحبة رخصة تقيم في دبي فيما ختم المكتب والهاتف الخاص بالرخصة مع أحد موظفي الوزارة؛ سمسار بنغلادشي؛ شركة تأمين تسوّق المعاملات المسبقة من خلال مندوبيها؛ مؤسسة تبيع موافقات مسبقة داخل مكتب سفريات؛ ر. غ. تبيع موافقات مسبقة في إحدى الدوائر التابعة للوزارة؛ فرع شركة داخل محل تصليح كهرباء للسيارات وآخر في إحدى المناطق باسم زوج موظفة في إحدى دوائر الوزارة، علماً أنه لا يحق له امتلاك ترخيص بعد زواجه من موظفة؛ مندوب مكتب استقدام ب. ش. يداوم من الثامنة صباحاً حتى السادسة مساء في إحدى دوائر الوزارة ولديه ختم المكتب ويبيع المسبقات».
هذه عينة مما يجري، وتفضح جزءاً من مخالفات المكاتب ومخالفات موظفين في وزارة العمل يعملون كسماسرة أو كمستأجرين للرخص. هناك أحاديث عن كثرٍ فاحت رائحتهم. يقول واحد من «أهل البيت»: «اصعدوا إلى الطبقة الأولى من الوزارة واسألوا كيف فيكن تجيبو عامل، رح تلاقو دغري حدا يظبط الوضع انتو وواقفين». وهناك أحاديث عن دائرة في إحدى المناطق، ينوب فيها عامل «الفاليه باركينغ عن أحد الموظفين في الدائرة عندما يغيب».
يعترف المدير العام للوزارة جورج ايدا بالفوضى وبالتقصير «الناتج عن قلّة عدد المفتّشين». يتحدث عن خطة لتنظيم عمل المكاتب من خلال خطوات عدة «أولها خفض كوتا المعاملات إلى 150 سنوياً»، و«التشدّد في منح رخص استقدام العمال الأجانب، ومن ثم تعديل القرار 168/1 بحيث يسمح بترفيع العاملة بالخدمة المنزلية لعاملة في التنظيفات (فئة ثالثة) بعد الإستحصال على موافقة الأمن العام». أما الخطوة الرابعة والأهم فتتعلق بزيادة عدد موظفي دائرة التفتيش (35 موظفاً حالياً).
في الوقت الحالي، لا شيء يمكن القيام به. في الوقت الحالي، «الحفي بيقصّر من طلوع الجبل». والحفي هنا ليس حكراً على وزارة العمل. هو حفي معمّم على كافة مؤسسات الدولة الغارقة في فسادها. حفي مقابل دفع مليارات الدولارات على إيجارات المباني التي تستخدمها المؤسسات الرسمية.