عندما صدر قرار مجلس الوزراء الذي يحمل الرقم 84، والمتعلق بالجلسة الأخيرة التي عقدت في 21 أيار الماضي، بدت العبارة الأخيرة في الفقرة الأولى من البند الثالث، مشبوهة. الباخرة الثالثة التي قدّمتها الشركة التركية المالكة لباخرتي الكهرباء الحاليتين تبدو مجانية في ظاهرها فقط. إذ إن الإشارة إلى المجانية «لأول ثلاثة أشهر»، توحي بما لا يدع مجالاً للشك أن هذه الأشهر الثلاثة المجانية يقابلها عقد مدفوع غير محدد المدة. حتى توضيح الأمانة العامة لمجلس الوزراء لم يساهم إلا في زيادة الغموض، ما اضطر نائب رئيس الحكومة غسان حاصباني إلى إرسال كتاب رسمي إلى الأمانة العامة يشير فيه إلى أن «صيغة مضمون القرار ليست هي الصيغة التي اتُّفق عليها في مجلس الوزراء، بل هي صيغة مختلفة». كما يوضح أنه «لم يتمّ الاتفاق على استخدام الباخرة الثالثة خارج إطار المجانية، بل الاستفادة منها مجاناً طوال مدة تشغيلها، لكامل طاقتها الإنتاجية». في الواقع، ليس حاصباني وحيداً في هذا التفسير. غيره من الوزراء يؤكد أن الاتفاق يقضي بالحصول على 200 ميغاواط مجاناً طوال فترة العقد، فيما كان وزير الطاقة قد أشار بعد تلك الجلسة إلى طاقة مجانية خلال فصل الصيف. تلك الحالة ليست جديدة. الخلاف على ما اتُّفق عليه يتكرر دائماً وهو يطال صلب عمل السلطة التنفيذية. واحدة من أشهر الحالات تلك التي حدثت منذ عام تماماً، ويصدف أنها تتعلق بالبواخر أيضاً. بعد جلسة 21 حزيران 2017، أعلن وزير الإعلام الاتفاق على «إحالة كامل الملف المتعلق باستقدام معامل توليد الكهرباء على إدارة المناقصات لفضّ العروض المالية وإعداد تقرير كامل عن استدراج العروض وإحالته على الوزير لإعداد تقرير مفصَّل ورفعه لمجلس الوزراء بأسرع وقت ممكن». لكن قرار مجلس الوزراء صدر في صيغة محرّفة تنص على «إحالة كامل الملف ( ) على إدارة المناقصات لفضّ العروض المالية وإعداد تقرير كامل عن استدراج العروض المالية المتعلقة باستقدام معامل توليد الكهرباء العائمة وإحالته على الوزير المختص، تمهيداً لإعداد تقرير مفصل ورفعه إلى مجلس الوزراء للبتّ به بأسرع وقت ممكن».
للوهلة الأولى، لا يبدو الفارق كبيراً، لكن التدقيق في التعديلات يبيّن تأثيرها بالقرار جوهرياً، ما جعل في حينه الشكوك تصبّ في خانة التعديل العمد. فقد حذفت عبارة «المتعلق باستقدام معامل توليد الكهرباء»، من أمام عبارة «كامل الملف». ونقلت لترد بعد عبارة «استدراج العروض» التي أضيفت إليها كلمة «المالية»، ليبدو كأن مجلس الوزراء قد طلب من إدارة المناقصات تقريراً يتعلق بالعروض المالية حصراً من دون الملفين الإداري والتقني، اللذين يشكّلان جزءاً لا يتجزأ من كامل الملف، خاصة أنه لا يوجد في القانون ما يسمى «استدارج العروض المالية». وهذا التغيير يُلغي عملياً الهدف من القرار، أي وضع تقرير شامل حول إجراءات المرحلتين الإدارية والتقنية التي كانت موضع ملاحظات ومآخذ وتشكيك وعدم ثقة بسلامتها.

مجلس ملل
هذان نموذجان فاقعان، كان بالإمكان تجنبهما بسهولة لو أن مجلس الوزراء يعمل كمؤسسة في دولة فعلية. لكن الواقع يشير، بحسب مصدر مطلع على أعمال مجلس الوزراء، إلى أن المجلس هو أقرب إلى مجلس ملل أو عشائر، وبالتالي إن الجلسات تكون أقرب إلى اتفاق على تبادل المنافع والمصالح أكثر منه اتفاقاً على إدارة الدولة. ولذلك، يدخل كل وزير إلى الجلسة مركّزاً على كيفية تمرير المواد التي تهمه أو تهم وزارته، منفتحاً على إجراء مقايضات مع الزملاء، بما يؤدي إلى تحول الجلسة سريعاً إلى سوق يفتح فيها مزاد القرارات. الجلسات الأخيرة لمجلس الوزراء كانت مثالاً فاقعاً على ذلك. أكثر من وزير قالوا إن «الفوضى كانت عارمة فضاعت الطاسة». حكماً لم يكن الهدف من إغراق جدول الأعمال بالبنود تأمين مصالح المواطنين. لا تزال حتى الآن تتكشف قرارات صدرت لإرضاء هذا الوزير أو ذاك، من دون أن تكون مبنية على دراسات واضحة. حظر بعض السلع التركية دون غيرها نموذج فاقع على ذلك، وكذلك الترخيص للسيطرة على بعض الأملاك البحرية العامة، إضافة إلى التعيينات التي مررت...
كانت إحدى أهم وظائف الأمين العام السابق لمجلس الوزراء القاضي الراحل سهيل بوجي هي هندسة الطلبات الوزراية والتوفيق بينها سياسياً وإدارياً. ذلك الدور بدا ضرورياً في ظل غياب الضوابط التي تنظم عمل مجلس الوزراء، وأبرزها وجود نظام داخلي له. لذلك، يصبح عادياً أن يوافق الوزراء على القرارات بالجملة وعلى الواقف. ويصبح عادياً أن يخرج المجلس بقرارات غير متفق عليها. وأن يصدر رئيس الحكومة تعميماً يتعلق بقانون تطبيق سلسلة الرتب والرواتب، فيما من البديهي أن تصدر القرارات التطبيقية للقانون بمرسوم...
لا يوجد من يحاسب على تخطي القانون ولا من يعترض على مخالفته، ولو حتى في الشكل. عندما كان سعد الحريري خارجاً لتوّه من الاحتجاز السعودي، وقبل أن يصل إلى بيروت صدر تعميم من الأمانة العامة لمجلس الوزراء لا مثيل له. في 21 تشرين الثاني أصدر الأمين العام للمجلس تعميماً موقَّعاً باسمه، جاء فيه: «يفيد الأمين العام لمجلس الوزراء أن دولة رئيس مجلس الوزراء يعلن إقفال جميع الإدارات العامة والمؤسسات العامة والبلديات يوم الأربعاء الواقع فيه 22-11-2017، وذلك بمناسبة ذكرى الاستقلال». تلك صيغة لم يعهدها المجلس لا قبل ذاك المرسوم ولا بعده، خاصة أن التعاميم توقع عادة باسم رئيس الحكومة لا الأمين العام.

إغراق منظّم
ليست الأمانة العامة لمجلس الوزراء هي القضية. المشكلة الأساس هي في إدارة المجلس دون قواعد ناظمة. ذلك يفتح مجال الاستنساب واسعاً، ليس لرئيس الحكومة فقط بل للوزراء أيضاً. هؤلاء يميلون إلى ممارسة صلاحيات مطلقة لا يحدّها قيد أو شرط. بعض البنود يمكن أن تعرض على المجلس قبل ساعات، متضمنة عشرات الأوراق، وربما المئات، بما لا يسمح لأي وزير بالاطلاع على مضمونها، فتكون النتيجة فوضى وقرارات غير مدقق بها. بعض الاقتراحات تقدم في ساعتها إلى المجلس، وإن كان القرار السياسي يقضي بتمريرها فستمر.
إلى متى الهرب من النظام الداخلي لمجلس الوزراء؟


على سبيل المثال، كان وزير الطاقة قد أرسل إلى الأمانة العامة للمجلس كتاباً يتضمن اقتراحاته المتعلقة بالحصول على طاقة إضافية، مفنداً عدداً من الاحتمالات، إلا أنه لم يتطرق، لا من قريب ولا من بعيد، إلى نتيجة مفاوضاته مع الشركة التركية لخفض سعر الطاقة المشتراة من البواخر الحالية، التي كلفه المجلس إجراءها، بعد أن قرر تمديد العقد لسنة واحدة. قد يكون السبب عدم انتهاء المفاوضات في تاريخ إرسال كتابه إلى مجلس الوزراء، لكن ذلك لم يحل دون طرح الأمر في الجلسة لمناقشته فوراً من دون إعطاء الفرصة لزملائه لدراسته.
مشكلة أخرى تواجه عمل المجلس. معظم الوزراء يقومون بالتحضير للجلسات عبر مستشاريهم لا عبر الإدارة الرسمية، التي تبقى غافلة عن قرارات تتعلق بصلب عملها، بالرغم من أنها الأقدر على تقدير الحاجة إليها، والأقدر على التأكد من مواءمتها للقوانين العامة والخاصة.
ولأن المجلس يتحول في أحيان كثيرة إلى «حارة كل من إيدو إلو» على حدّ قول مصدر وزاري، فإن بعض الوزراء طوروا مهاراتهم للاستفادة من هذه الحالة، بحيث صاروا يتعمدون تضمين كتبهم إلى المجلس بعبارات محددة، فيحولون إقرار المجلس لهذا الكتاب أو القرار، إلى موافقة على هذه العبارات.
الوزير جبران باسيل كان يردد عبارة شهيرة: الوزراء لا يقرأون. وهذا أمر واقع، لكن حتى من يقرأ، لن يتمكن من التحقق من كل ما يطرح على جدول الأعمال، خاصة في ظل حالة الإغراق التي يعتمدها بعض الوزراء، لذلك لا بد من وضع آلية تسمح بالتحقق من كل ما يتضمنه جدول الأعمال.

أين النظام الداخلي؟
بالنسبة إلى المدير العام السابق لرئاسة الجمهورية ناجي أبي عاصي، لا بد من إعادة قراءة ما يتم الاتفاق عليه، ليصار إلى الموافقة عليه من الوزراء. ويرى أبي عاصي أن وجود آلية عمل لمجلس الوزراء تنهي احتمال تكرار إشكالات كهذه. لا نقاش في أن وجود نظام داخلي لمجلس الوزراء هو حاجة ماسة لتنظيم عمل المجلس، أسوة بالنظام الداخلي لمجلس النواب. فهذا النظام، من جملة ما يتطرق إليه، الآليات الشكلية للعمل الوزاري، بدءاً من كيفية دعوة الوزراء للاجتماع (يتذكر أحد الوزراء أن الرئيس رفيق الحريري دعا مرّة للاجتماع لبحث موضوع أمني، فرفض وزير الداخلية الحضور بحجة تجاوز رئيس الحكومة لمجلس الأمن المركزي)، وصولاً إلى وجوب وضع محضر لكل جلسة وفق الأصول...
لكن بما أن هذا النظام لا يزال أحد «التابوات» المرفوضة من رئاسة الحكومة، لأسباب لا تتعلق حكماً بحسن سير المرفق العام، فقد يكون البديل اعتماد أسلوب عمل مجالس الإدارة (الموافقة مع بداية كل جلسة على محضر الجلسة التي سبقت)، أو على الأقل العودة إلى أسلوب عمل سهيل بوجي، إذ يشير الوزير السابق بطرس حرب إلى أن بوجي كان يحرص على كتابة نص القرار الذي يقرّه المجلس، خاصة إذا كان إشكالياً، ويُطلع الوزراء عليه رأساً، ليتأكدوا أنه هو النص الذي اتفقوا عليه ثم يوافقوا عليه. علماً أن الأمر نفسه يحصل في مجلس النواب، ويسمح بتجنب الكثير من الإشكاليات المشابهة.