لم يستطع، أمس، ممثلو مؤسسات الرعاية الاجتماعية ورعاية المعوقين إخفاء ارتيابهم من مصير التعاقد مع وزارة الشؤون الاجتماعية، رغم أجواء الطمأنة التي أشاعها الوزير بيار بو عاصي بشأن تجديد العقود «للاستمرار بأدائهم الإنساني».الاتفاق على التوقيع في أسرع وقت بعد تأخير لأشهر بناء على طلب التريث من مجلس الوزراء لم يدم طويلاً، فلم يكد «الممثلون» يخرجون من مكتب الوزير حتى اكتشفوا أن ثمة مادة أضيفت إلى العقد تفرض عليهم إبلاغ الوزارة بأعداد الذين يغادرون المؤسسة وعدم استقبال طلبات إضافية بديلة عن المغادرين من دون موافقتها، بما يمكن أن يعنيه ذلك توظيف «الزبائنية» لتنفيع مؤسسات أخرى. المؤسسات ستتريث، كما قال ممثلوها، في التوقيع في انتظار توضيح هذه المادة، باعتبار أن توظيف الفريق التعليمي والعلاجي يجري بناء على الموازنة المعطاة «ولا نستطيع أن نصرفهم من دون سابق إنذار وبعد 5 تموز».
وكان خبر «نية» التوقف عن دعم تعليم ذوي الصعوبات التعلمية في مؤسسات الرعاية وعدد من المدارس المتعاقدة مع الوزارة قد سرى، فجأة، داخل أروقة وزارة الشؤون الاجتماعية، قبل أسابيع. أما السبب المعلن لمثل هذا التوجه فكان عجز الموازنة المرصودة عن تغطية تكاليف تعليم هذه الفئة.
الخبر انتقل «شفهياً» إلى المؤسسات المتعاقدة التي أبلغت بدورها أهالي التلامذة بأن الوزارة ستتوقف عن تمويل تعليم أبنائهم. بسرعة، تحرك أولياء الأمور «المتعلقون بالقشة» باتجاه بو عاصي الذي طمأنهم في حينه بأن الوزارة لن تتخلى عنهم ما دام البديل ليس متوفراً.
حتى هذه النقطة، لم تكن النية، أو التوجه، قد تحوّل إلى قرار. إلاّ أن المدير العام للوزارة عبد الله الأحمد يقول إنه والوزير باتا مقتنعين بضرورة تقليص «هذا العبء»، وأن التوجه هو نحو المحافظة على من هم دون 12 عاماً من بين917 تلميذاً تغطي الوزارة تعليمهم حالياً، إضافة إلى حاملي بطاقات الإعاقة وهؤلاء لا يتجاوز عددهم 137 تلميذاً. وبذلك يتبين، وفق أرقام الوزارة، أن عدد الذين سيغادرون المؤسسات إلى المجهول يبلغ نحو 321 تلميذاً.
هل هدف وقف تمويل تعليم ذوي الصعوبات تمرير عقود جديدة مع مهنيات خاصة؟


بو عاصي لم يقل شيئاً آخر، بل تحدث في مؤتمره الصحافي، بعيد لقائه ممثلي المؤسسات أمس، عن محدودية الاعتمادات ما يفرض وضعها في المكان المناسب واللازم لاستخدام الوفر في مكان آخر، والهدف سيكون الأطفال ذوو الاعاقة لا سيما العقلية منها والتوحد. الوزير طمأن إلى أن المعالجة لن تكون الإقصاء أو البتر، إذ سيعاد تقييم الأطفال المصنفين من ذوي الصعوبات، ومن يتبين أنّ وضعه قد تحسن وبات جاهزا للانتقال إلى التعليم المهني أوالأكاديمي، فسيصار إلى ذلك، أما من تراجع فسيصنف من ذوي الإعاقة ويبقى تحت جناح الوزارة.
لكن حتى الآن لا تملك الوزارة، باعتراف المدير العام، دراسة متكاملة عن الوضع التفصيلي لهؤلاء، وما إذا كانت قدراتهم ومؤهلاتهم تسمح لهم بتعلم مهنة أم لا، وإن بدا مقتنعاً بأنّ توجيه هؤلاء نحو التدريب المهني (دورات وما شابه) بات مطلوباً، بما أنّه ليست هناك اعتمادات مخصصة لذوي الصعوبات في الأساس، إنما تكفلت بهم وزارة الشؤون في وقت من الأوقات من دون أي تخطيط، وباتت تسحب، خلافاً للقانون، مبالغ من موازنة مساعدة وإسعاف ذوي الإعاقة.
بالنسبة إلى المدير العام، تكمن المشكلة المركزية في عدم تحديد الأولويات في الإسعاف وسط شح الموازنة، وحصر الاهتمام بالمعوقين الذين تقل أعمارهم عن 18 عاماً، فيما لا يحصل الآخرون على الرعاية اللازمة. يسأل: «أيهما أولى بالرعاية :ذوو الصعوبات التعلمية القادرون على الاندماج في المجتمع مع جهد إضافي من المسؤولين، أم الذين يعانون من توحد أو تخلف عقلي، وهؤلاء يعوقون عمل أسرهم بصورة كلية، فيما تزداد أعدادهم بشكل تصاعدي، إذ هناك 500 حالة على لائحة الانتظار تطلب الدعم؟». اللافت أنّ المدير العام يشكك أيضاً في اختبار الذكاء لتشخيص حالات ذوي الصعوبات، الذي تقوم به الوزارة فيقول: «ليس هناك اختبار موحد. من يقول إن الاختبار المعتمد يشخص الحالة بصورة دقيقة؟!». وكشف «أننا نعتزم التقليص من موازنة المركز لمصلحة الرعاية في المناطق».

عقود جديدة مع مهنيات خاصة؟
التخلي عن ذوي الصعوبات من دون رؤية واضحة لمصيرهم دفع ممثلي مؤسسات الرعاية للقول إنّ هذا الإجراء سيخلق حتماً أزمة اجتماعية جديدة، وأنّ الشارع سيكون البديل الواقعي للمتسربين. وهنا يرى اختصاصيون أنّه لا يمكن اتخاذ قرار بهذا الحجم ما لم يجر تقويم شامل مختص للحالات ولا علاقة لسن التلميذ بالأمر.
وإذا كان الهدف تخفيف العبء عن الموازنة سأل موظفون معنيون: لماذا التصويب على هذه الفئة بالذات في حين يستمر التعاقد مع المعاهد والمدارس المهنية الخاصة حيث تتكفل الوزارة بتعليم عشرات الآلاف من التلامذة الفقراء، فيما المهنيات الرسمية فارغة؟ وهل صحيح أن الهدف الضمني لقرار وقف تمويل تعليم ذوي الصعوبات هو تمرير عقود جديدة مع مهنيات خاصة؟
هنا يوضح المدير العام «أنّنا كنا في السابق نغطي التعليم المهني (داخلي وخارجي)، إلاّ أننا منذ عام 2010، حصرنا التمويل بالمدارس الداخلية ونعطي 6 آلاف ليرة لكل تلميذ يومياً فقط». لكن عدد هؤلاء ليس بسيطاً والموازنة السنوية لتعليمهم لا تقل عن 13 مليار ليرة! فيما موازنة ذوي الصعوبات 7 مليارات.

خطط فردية وتضارب صلاحيات
لا عجب أن يجد ذوو الصعوبات التعلمية أنفسهم معلقين بحبال الهواء في أي لحظة ومع كل انعطافة. فالمواكبون لمسار هؤلاء لا يستغربون أن يتعرض تعليمهم للاهتزاز بما أنّه بني تارة على خطط تدخل فردية للمدارس الخاصة، وتارة أخرى على تجارب آنية ومرحلية للمجتمع المدني والمنظمات الدولية مثل اليونيسيف والجهات الدولية المانحة، وطوراً على اندفاع المديرين في المدارس الرسمية، لكن من دون رسم سياسة واضحة ومتكاملة للدولة التي ارتضت بأن يتطور نظام التعليم المختص بمنأى عن النظام التعليمي العام، ما ساهم في تشتّت الجهود وتضارب الصلاحيّات. أما العمل الرسمي فاقتصر على الترحيب والتشجيع بلا أي تفكير بالأطر والتعريفات الإجرائية والدقيقة لفئات الإعاقة والمراسيم والتشريعات المفصّلة لتسهيل دمج هؤلاء مع أقرانهم لا سيما في المدارس الرسمية وتوفير الخدمات التعليمية المساندة لهم.
ذوو الصعوبات يبحثون عن مسؤول إصلاحي لا يتهرّب من مسؤولياته، ويعيد النظر في النظام الرعائي والسياسات التربوية والاجتماعية.



دمج بلا أفق
بحسب ممثلي المؤسسات، فإن البرنامج التعليمي التجريبي الدامج الذي أطلقته وزارة التربية، أخيراً، في 30 مدرسة رسمية بالتعاون مع اليونيسف، ووصفه الوزير بيار بو عاصي أمس بـ«الممتاز»، لن يضم فريقاً علاجياً مقيماً في كل مدرسة (اختصاصيي نطق، ومربين تقويميين، ومتابعين نفسيين وتربويين، ومدربين اجتماعيين ومعالجين حسيين حركيين أو انشغاليين)، إنما الفرق ستتجول بين المدارس. المفارقة التي يتحدث عنها هؤلاء هو عدم إفصاح وزارة التربية عن أسماء المدارس، بما يوحي أنها ستهتم ربما بذوي صعوبات موجودين حالياً في المدارس الرسمية ولن تستقبل حالات جديدة. لكن إذا كانت التقديرات تشير إلى أنّ نسبة ذوي الاحتياجات الخاصة والذين يعانون نوعاً من الصعوبات التعلمية هي 10% من عدد تلامذة لبنان (مليون تلميذ)، أي نحو 100 ألف، فيما لا يتجاوز عدد الذين يخضعون لمواكبة تعليمية في مدارس بدأت تطبق الدمج التربوي بضعة آلاف، فهذا يعني أن باقي التلامذة إما أنّهم يتعذبون في الصفوف من دون تشخيص لوضعهم أو يتسربون من المدرسة.
في السياق، توضح مصادر رسمية معنية أن وزارة التربية تعي تماماً الدور المنوط بها في مجال تعليم هذه الفئة، لكن المشكلة تكمن في هيكليتها والنظام الذي لا يسمح بتوظيف الكادر البشري المتخصص، فالموظفون إما معلمون أو إداريون. بحسب المصادر، التغيير مطلوب على ثلاثة مستويات: البنية التحتية للمدارس الرسمية، توظيف الكادر البشري المتخصص، وإعداد مناهج متخصصة مكيّفة.


من هم ذوو الصعوبات؟
الصعوبات التعلمية ليست كسلاً أو «غنجاً». فالمراقب لا يعثر في ملامح الطفل، صاحب الصعوبة، على الاحتياج الخاص. فالأخير يلبي ما يطلب منه، يركض، يلعب... لكنه يعاني فروقاً بين القدرات الذهنية والمردود الأكاديمي. يشعر التلميذ بأنه غير قادر على تأدية المهمة التي تطلب منه، فيفقد الحماسة والالتزام ويصبح عرضة للانزواء والفشل، وقد يصاب أحياناً باضطرابات سلوكية مثل العنف ضد إخوته أو رفاقه في المدرسة. غالباً ما تكتفي المدارس الرسمية بإعلان رسوب هؤلاء المتعلمين، ما يدفع بهم إلى التسرّب المدرسي، فيخفقون في تحقيق أي تحصيل علمي يساعدهم على كسب معيشتهم بصورة لائقة تتناسب مع قدراتهم الإدراكية والاجتماعية. يذكر أنّ حالة بعض التلامذة لا تحتاج فقط إلى دمج في الصف عبر تخصيص معلم مرشد (shadow teacher)، بل إلى ساعات بعد الظهر في عيادات خاصة. وهذا يرتب أعباء مالية باهظة على الأهالي.

مبالغات في التكاليف
صحيح أن وزارة الشؤون الاجتماعية تغطي تعليم ذوي الصعوبات وفق سعر كلفة قديم محدد في عام 2011 وهو 6 ملايين ونصف مليون ليرة عن كل تلميذ، إلاّ أن مصادر الوزارة تنفي أن تكون كلفة البرنامج المخصص في المدارس الخاصة لتعليم هذه الفئة منطقية. إذ تلامس في بعضها 20 ألف دولار للتلميذ الواحد. فهل يستحق برنامج الصعوبات التعلمية هذه التكاليف فعلاً؟ تلفت المصادر إلى أنّ المدارس تتذرع لتبرير الكلفة بأنها لا تقلّل من أوقات جلسات العلاج، فيما قد يحتاج التلميذ إلى عدد أقل مما تعطيه.
أما المدارس فتقول إن كلفة البرنامج تبدو مرتفعة إذا نظرنا إلى المبلغ كرقم، لكن إذا اطلعنا على نوعية الخدمات المقدّمة والمهنية المعتمدة في تطبيقها، نجد أن الكلفة توازي بالكامل كلفة فريق العمل المتعدّد الاختصاصات. المدارس تتذرع بأنّ الجامعات اللبنانية لا تخرّج سنوياً العدد الكافي من هؤلاء المربين التقويميين، ما يدفع المدارس إلى إعطائهم رواتب مرتفعة.