يراقب الخبراء، باهتمام بالغ، التغيرات والتقلبات في أسعار سندات اليوروبوندز اللبنانية والفائدة عليها. خلال الأشهر الماضية كان مسار السندات ينحدر تدريجاً. استمرّت الفائدة بالارتفاع وواصلت أسعارها الانخفاض. ليست هناك عوامل محليّة تفسّر هذا التراجع. هذه المرّة السبب خارجي محض. على رغم ذلك، يُعدّ هذا الانحدار أحد علامات الضعف المالي والاقتصادي. ارتفاع أسعار الفائدة على هذه السندات قد يؤدّي إلى سلسلة من المضاعفات على بنية أسعار الفائدة المحلية. لم تبدأ الأزمة بعد. النتائج قد تولّد أزمة في المدى المتوسط. ارتفاع في كلفة خدمة الدين العام. ارتفاع في كلفة اقتراض القطاع الخاص من المصارف. المزيد من الاعتماد على الاستدانة من الخارج. تضخّم كل واحدة من هذه الحلقات وتسارع وتيرتها.في الفترة الأخيرة، بدأت سندات اليوروبوندز المطروحة للتداول والتجارة في الأسواق الدولية، تسترعي الانتباه أكثر فأكثر. هذه السندات هي أداة للاستدانة بشروط وضوابط محدّدة. هي سندات سيادية كونها صادرة عن الدولة اللبنانية مقابل استدانة مبالغ معينة بالعملات الأجنبية من السوق. يمكن إصدار أكثر من شريحة من السندات. كل شريحة تحمل أجل استحقاق محدّد مسبقاً وفائدة سنوية. كل السندات مسجّلة في اللوكسمبورغ وقابلة للبيع والشراء. ينعكس هذا الأمر على تسعير السندات، ويعكس أيضاً الرغبة في الاحتفاظ بها أو التخلّي عنها سواء كان حاملوها لبنانيين أو أجانب. كلما انخفض سعرها ارتفعت الفائدة عليها. ارتفاع الفائدة هو التعويض الذي يحصل عليه حامل السند مقابل انخفاض السعر.
في هذا الإطار، يمكن قراءة التراجع الدراماتيكي في أسعار سندات اليوروبوندز خلال الأشهر الأخيرة. غالبية الشرائح انخفض سعرها إلى أقل من 75 دولاراً. أول من أمس تراجع أسعار بعض الشرائح إلى 72 دولاراً، أي بانخفاض نسبته 28 في المئة؜ مقارنة مع سعر الإصدار بقيمة 100 دولار. الأمر لم يبق عند حدود التراجع، بل أثار حالة من البلبلة في السوق، بلغ معها حجم الطلب على الدولار نحو 50 مليون دولار.
إزاء هذا الوضع، انتشرت في السوق إشاعات بعضها كان يهدف إلى احتواء نتائج انخفاض السعر وارتفاع الفائدة، وبعضها لم يتوان عن تضخيم الأمر واستغلاله سياسياً. ثمة من قال إن هذا الأمر يشكّل دليلاً على انعدام الثقة الدولية بقدرة لبنان على مواجهة التحديات المالية والاقتصادية وتنفيذ الإصلاحات التي التزم بها في مؤتمر «باريس 4». آخرون تحدّثوا عن قصّة تجارية متصلة بوجود صندوق استثماري في لندن يقوم بعمليات مراهنة على أسعار سندات لبنان، فضلاً عن عدم وجود سيولة كافية لدى المصارف اللبنانية لشراء السندات المطروحة في الخارج للبيع بأسعار مغرية.
الأخطر من ذلك، أن التراجع لم تكن له أسباب محليّة تفسّره، بل كانت أسبابه محض خارجية. فما حصل هو أن المستثمرين الأجانب بدأوا بالتخلّي عن استثماراتهم في الأسواق الناشئة مثل لبنان، للاستثمار أكثر في السندات الأميركية. ارتفاع أسعار الفائدة الأميركية وتحسّن السوق الأميركية يعطي المستثمرين في الأسواق المالية فرصة أوسع للاستثمار في أسواق فيها أخطار أقلّ وأرباح مجزية.
هكذا ينظر المستثمرون إلى الأسواق التي فيها مستوى أخطار مرتفع وينسحبون منها. مشهد يكشف الكثير عن بنية النظام المالي في لبنان. فهذه السندات التي تمثّل جزءاً أساسياً من الدين العام باتت محمولة بنسبة كبيرة من الأجانب.
بحسب المعلومات ارتفعت حصّة الأجانب في سندات اليوروبوندز إلى 13 مليار دولار من مجمل محفظة هذه السندات البالغة 31 مليار دولار، أي ما نسبته 41 في المئة. «هذا يعني أن لبنان بات يعتمد على الأجانب أكثر من السابق لتمويل الدين العام. والاعتماد على الأجانب يعني التعرض أكثر للتذبذبات في الأسواق الدولية. وهذا يعني أيضاً أن اقتصادات مثل لبنان وتركيا تعاني من عجز في الحساب الجاري ستشهد أثراً واسعاً بسبب هذه التقلبات في الأسواق الدولية. لكن في كل الأحوال ليست هناك أزمة تشبه ما حصل يوم استقالة الرئيس سعد الحريري بعيد احتجازه في السعودية» على حد تعبير مصدر مصرفي مطلع.
المفارقة أن المشكلة لم تنتج من حدث ما، بل عن تقلبات مرتقبة في الأسواق العالمية. هذا يعني أن أصل المشكلة يكمن في بنية النظام المالي اللبناني. هذا النظام بدأ يزيد من اعتماده على الأجانب لتمويل الدين العام لأنه لم يعد قادراً على اجتذاب المزيد من الدولارات. حاجته لهذه الدولارات حيوية، إذ إنه يستعملها لتمويل العجز في ميزانه التجاري. يستورد لبنان غالبية ما يستهلكه من الخارج ويدفع بالعملات الأجنبية. حاجته للعملات الأجنبية تصل إلى 14 مليار دولار سنوياً يموّل منها نحو 7 مليارات دولار عبر تحويلات المغتربين والباقي عبر اجتذاب الرساميل. يغريها بأسعار الفائدة. يترك هامشاً من نقطتين أو ثلاث نقاط بين أسعار الفائدة العالمية وبين أسعار الفائدة المحلية لإغراء الرساميل واستقدامها إلى لبنان. هذا الأمر يعيدنا إلى مربّع الخطر الأول الناتج من ارتفاع أسعار فائدة اليوروبوندز. صحيح أن وزنها ليس كبيراً بالنسبة لمجمل الدين العام الحكومي، إلا أنها تحدّد كلفة استدانة لبنان من الأسواق الدولية. كلفة الاستدانة بمعدل 10 في المئة على الدولار مرتفعة جداً. لن يكون احتساب كلفة إصدار جديد بعيداً عن هذا المستوى من الفائدة. فهي تعبّر عن درجة الأخطار في لبنان، سواء كانت أخطاراً محلية أم خارجية وسواء كانت سياسية أم اقتصادية ومالية ونقدية.
بهذا المعنى، يمكن تفسير التنافس بين المصارف على اجتذاب الودائع من خلال إغراء المودعين بفائدة تصل إلى 9 في المئة على الدولار وإلى 15 في المئة على الليرة. الربح الحقيقي من ارتفاع الفوائد «يكمن في ما فعله مصرف لبنان والمصارف من إطالة آجال استحقاق الودائع وتقليص الهوّة بينها وبين طول آجال توظيفاتها» وفق المصدر نفسه. برأيه، «هذا الأمر ليس سهلاً ونتائجه كبيرة، لكن للاسف لا يلغي مفاعيل ارتفاع أسعار فائدة سندات اليوروبوندز على كلفة خدمة الدين العام المتنامية وعلى بنية أسعار الفائدة المحلية والانكماش الاقتصادي الذي قد يسببه هذا الارتفاع».
حصة الأجانب من سندات اليوروبوندز ارتفعت إلى 13 مليار دولار


ليست هناك تقديرات معلنة عن الأثر الفعلي لارتفاع أسعار سندات اليوروبوندز على خدمة الدين العام، لكن مصادر في مصرف لبنان تعتقد أن «انكشاف الدين العام على الأجانب لا يتجاوز 14 في المئة من مجمل الدين، أي إن الأثر الناتج من تغيرات أسعار السندات وارتفاع الفائدة عليها محدود».
بالنسبة للمصادر نفسها، ستزداد الكلفة «مع بدء عمليات التمويل الجديدة للدين الخارجي». أما بالنسبة للأثر على أسعار الفائدة المحليّة فمن البديهي أن ترتفع «لكن المفاجأة جاءت في تباطؤ التسليفات للقطاع الخاص إلى 0.5 في المئة خلال النصف الأول من عام 2018 بحسب ما أعلن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في اللقاء الشهري الأخير مع المصارف».
ومع ارتفاع أسعار الفائدة المحلية على الأوراق المالية، بدأت المصارف تفاضل بين زيادة التسليفات للقطاع الخاص الذي تظهر عليه آثار التعثّر واتساعها، وبين زيادة توظيفاتها مع مصرف لبنان حيث تحصل على أرباح أكبر ومضمونة وسهلة وتقريباً بلا أخطار. هذه المصارف كانت قد استفادت من الهندسات المالية في عامي 2016 و2017 وباعت أو رهنت سندات اليوروبوندز التي كانت تحملها للحصول على دولارات يمكن توظيفها في الهندسات وتحقيق أرباح طائلة منها. هي والهندسات كانا السبب في ارتفاع حصّة الأجانب من الدين العام، والاقتصاد يحصد اليوم نتائج هذه السياسات. «صحيح أن هذه السياسات المالية والنقدية وفّرت للبنان مزيداً من الوقت بكلفة كبيرة، إلا أنه لم تجعله يتجنّب المحتوم. المسار الانحداري لسندات اليوروبوندز ليس إلا أحد المؤشّرات الظاهرة. أما ارتفاع أسعار الفوائد، فإن أثره الاقتصادي سيكون كارثياً مع تقلص النموّ إلى أقل من 1.5 في المئة أي أقل بنحو نقطة مئوية أو نقطة ونصف من توقعات البنك الدولي. الاقتصاد الحقيقي هو المؤشر الذي يجب النظر إليه بكثير من التأني والدقّة وبكثير من الحساسية» وفق المصدر المصرفي نفسه.