تسعى جهات سياسية عدّة لوضع يدها على بلدية طرابلس. المسألة أشبه ما تكون بمحاولة مصادرة إرث الوزير السابق اللواء أشرف ريفي، الذي تخلّى «طوعيّاً» عن البلدية، نتيجة ما راكمته من «فشلٍ» على مدى سنتين، أكل من رصيد ريفي الطرابلسي. تحرّر اللواء المتقاعد من ثِقل البلدية، لكنّ ترك «الرزقة» عزّز أطماع كثيرين. يبدو تيار المستقبل صاحب الطموح الأكبر في إحكام قبضته على البلدية، خصوصاً أنّ مصالحه تلتقي مع مصالح رئيس البلدية أحمد قمر الدين الذي بات مُهدداً بطرح الثقة به، ما يجعله بأمسّ الحاجة إلى غطاء سياسي يحميه ويُشكّل دعامة لولايته. وقد رأى البعض في استدعاء محافظ الشمال رمزي نهرا لقمر الدين منذ يومين، بحجّة التحقيق معه في ملّف المسلخ، خطوة أولية في هذا الإطار.لم يمرّ طلب نهرا، الأربعاء الماضي، استدعاء قمر الدين ومديرة اتحاد بلديات طرابلس ديما حمصي، للاستماع إلى إفادتيهما حول المخالفات وهدر المال العام الحاصل في الاتحاد وفي المسلخ، مرور الكرام. فقد أثار موجة من الاستنكار على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث وصف البعض ما حدث بـ«التطاول» على المرجعية التنفيذية الأولى في العاصمة الثانية.
دعم قمر الدين لم يقتصر على بعض «الناشطين» الافتراضيين، بل شمل أيضاً أعضاء المجلس البلدي، الذين كانوا بمعظمهم يخوضون معركة «كسر عظم» مع رئيس بلديتهم، وصولاً إلى حدّ مُطالبته بالاستقالة. ولكنّ هؤلاء رفضوا «التعاطي الفوقي مع الريّس» بحسب توصيفهم، مُعتبرين أنّ ما فعله نهرا إساءة لكلّ المدينة. وقد طلبوا من المحافظ، في بيانٍ صدر عقب جلسة المجلس البلدي، الاعتذار عن «الإساءة». ورفض البيان الإساءة لمقام رئاسة البلدية، تلميحاً وتشهيراً عبر الإعلام، مُطالباً بتحويل ملّف المسلخ بكامله إلى القضاء المختص. فضلاً عن دعوة نواب ووزراء المدينة وفعاليات طرابلس إلى تحمّل مسؤولياتهم، ووضع حدّ «لتجاوزات» نهرا.
في الشكل، نجح قمر الدين في شحذ الاستعطاف وتفويت الفرصة على نهرا ووضعه في خانة «المُذنب»، خصوصاً أنّه لا يحق له قانوناً استدعاء رئيس البلدية من دون تكليفٍ من وزير الداخلية. إضافةً إلى أنّ لنهرا «علاقة» في ملف المسلخ. فما جرى تلزيمه، خلال المرحلة الأولى، حصل عندما كان مُحافظ طرابلس وصياً على بلدية الميناء، إثر انحلال مجلسها البلدي السابق.
أما في المضمون، وبحسب معلومات «الأخبار»، فإنّ الاجتماع الذي جمع نهرا وقمر الدين لم يتناول ملّف المسلخ. بل إنّ نهرا جعل من أزمة هذا المرفق، ذريعة لتبرير استدعاء قمر الدين والضغط عليه إعلامياً بهدف إحراجه، وجُلّ ما في الأمر أنّه «عتبان على عدم التنسيق معه». وأكثر ما أثار حفيظة المُحافظ، هو مُضيّ البلدية في حملة إزالة المخالفات والبسطات بالتعاون مع القوى الأمنية من محيط نهر أبو علي، واستكمال أعمال مشروع «الإرث الثقافي» المموّل من البنك المركزي الأوروبي والوكالة الفرنسية للتنمية، من دون التنسيق معه سلفاً، لا سيّما بعد أن استأجرت البلدية أرضاً بالقرب من برّاد البيسار في محلّة أبو علي، بقيمة 35 مليون ليرة سنوياً، مخصصة لعمل أصحاب البسطات.
ويقول أعضاء في المجلس البلدي، إنّ قمر الدين سمع من نُهرا انزعاجه «من هذا التجاهل»، مُشيراً إلى ضرورة التعاون بينهما لما فيه مصلحة المدينة. استغرب الأعضاء البلديين ما أقدم عليه نهرا، خصوصاً أنّه خلال العام الماضي، عندما قام رئيس بلدية الميناء عبد القادر علم الدين بخطوة مماثلة مع أصحاب البسطات على كورنيش الميناء، استضاف نهرا المعترضين على «قطع أرزاقهم»، وحصلوا منه على ضمانة بالاستمرار بما يقومون به.
وعد الحريري بتهدئة المجلس البلدي وتذليل كافة العقبات أمام قمر الدين

إزاء ذلك، يعتبر أعضاء البلدية أنّ نهرا حصل على «إيعاز من أحد التيارات السياسية للضغط على قمر الدين».
ما تعانيه بلدية طرابلس من تشرذم وضعف، لا سيما بعد أن رفع ريفي الغطاء السياسي عنها، فتح شهية الأقطاب السياسية الأخرى إلى إحكام قبضتهم عليها. الطريق الأسهل لذلك، بتطويع رئيسها الذي نسج علاقات مع مختلف السياسيين في المدينة، وهو يمدّ يده لعقد قران جديد مع أي جهة تضمن له الاستقرار داخل المجلس البلدي وتساهم في تثبيت زعامته. فقمر الدين بحاجة إلى مظلّة سياسية تحميه وسط الضغوطات الكثيرة. وهو يُدرك جيداً أن الهدنة التي عُقدت أخيراً بينه وبين أعضاء المجلس البلدي ليست إلا ناراً تحت الرماد، وآيلة للانهيار في أي لحظة لتعود معها الصيغ التصعيدية إلى الواجهة. وبحسب مطلعين فإن ما يحول دون استقالة جماعية لأعضاء المجلس البلدي، خوفهم من أن توضع البلدية تحت وصاية نهرا، في ظلّ عدم وجود نيّة لدى الفرقاء السياسيين في المدينة لخوض انتخابات بلدية فرعية في الوقت الراهن.
ويبدو تيار المستقبل أكثر المتعطشين للسيطرة على السلطة التنفيذية في المدينة، خصوصاً أنها مصدر لتقديم الخدمات والتنفيعات، لا سيما مع فتح باب التوظيف على مصراعيه فيها أخيراً. وتأتي زيارة قمر الدين الأخيرة إلى بيت الوسط حيث التقى رئيس الحكومة المُكلّف سعد الحريري مؤشراً إضافياً لذلك. فبحسب مطلعين، وعد الحريري بالعمل على التهدئة في المجلس البلدي وتذليل كافة العقبات أمام قمر الدين والعمل على تمرير المشاريع لطرابلس وتسريع البت بملفات البلدية العالقة في وزارة الداخلية.
وما يعزز التقارب بين المستقبل وقمر الدين هو أولاً انسحاب الرئيس نجيب ميقاتي من المشهد، في ظل عدم رغبته في تبني قمر الدين، الذي بات «ورقة خاسرة» بالنسبة إلى الطرابلسيين. وثانياً تاريخ «العمل السياسي» المشترك بين قمر الدين و«المستقبل». فقمر الدين، قبل أن يقرر متابعة المسيرة مع ريفي إثر «الهجر» السياسي بينه وبين التيار الأزرق، ترشح مراراً على لوائح الأخير في طرابلس. فهو كان عضواً لثلاث دورات في المجالس البلدية السابقة، كما كان نائب الرئيس في عام 2004 في عهد الرئيس رشيد جمالي، وقد فاز بالمنصب بدعم من «المستقبل». وعليه، يبدو اليوم أن هناك من يسعى إلى إحياء هذا التعاون من طريق المحافظ نهرا، في محاولة لحصل إرث ما خلّفه ريفي وراءه.