بانقضاء شهر ونصف شهر على 24 أيار، وُلدت على هامش تأليف الحكومة نزاعات موازية مستعرة: بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، بين الرئيس سعد الحريري والسنّة المعارضين، داخل البيت الدرزي ومع القوى التي تتجاذب خلافاته. وحده «الثنائي الشيعي» يتفرّج. أقرب ما يكون إلى الشامت، منه إلى المعني بتذليل العراقيل سواء من خلال تأثير الرئيس نبيه برّي على نصف المتخاصمين أو من خلال تأثير حزب الله على النصف الآخر. منذ ما قبل تكليف الحريري، رُفع عنوان واحد للحكومة الجديدة هو: حكومة وحدة وطنية يتمثّل فيها الجميع. لا يزال هذا العنوان وحده، منذ اليوم الأول، دليل تأليف الحكومة، لكن من دون تأليف بسبب الخلاف على قياس الأحجام وتقدير الحصص وتوزيع الحقائب. قد تكون طامة كبرى أنه العنوان الوحيد الذي يلتقي عليه المرجعان الدستوريان المعنيان بالتأليف، وهما الرئيس ميشال عون وسعد الحريري. ما عداه، أثبتت الأيام التالية أنهما على طرفي نقيض.
في الظاهر، التباين بين الرئيس المكلف والوزير جبران باسيل المكلف من القصر الجمهوري إدارة ملف التأليف. في الواقع، أنه أيضاً بين رئيسي الجمهورية والحكومة اللذين يقاربانه على نحو مختلف. يكفي أن يكون باسيل المحاور والمفاوض الوحيد باسم القصر الجمهوري كي يعبّر عن وجهة نظر الرئيس، مقدار تعبيره عن ترؤسه الحزب الذي يقود الكتلة النيابية الكبرى في البرلمان، ناهيك بأنه رئيس حزب الرئيس. بذلك يمسي التمييز بين رئيس الجمهورية وصهره الوزير باهتاً للغاية.
بضعة معطيات مرتبطة بتباين المقاربة:
أولاها، أن رئيسي الجمهورية والحكومة يحاولان - للمرة الأولى منذ اتفاق الطائف وليس اتفاق الدوحة فحسب - تأكيد صلاحيتهما الدستورية، الحصرية، بتأليف الحكومة. الأمر الذي لم يُعطَ أياً من الرؤساء الياس هراوي واميل لحود وميشال سليمان مع رؤساء الحكومات المتعاقبين، إبان الحقبة السورية وبعدها. في ظل وجود سوريا، كان التأليف مقسّماً على ثلاثة: رئيسا الجمهورية والحكومة ودمشق الوحيدة تمتلك نصاب الثلثين مباشرة، وأحياناً مداورة مع أحد الرئيسين الآخرين. بعد اتفاق الدوحة، ظل التأليف مقسّماً على ثلاثة لكن بتفاوت: رئيس الجمهورية وفريقا 8 و14 آذار من ضمن الأخير حصة رئيس الحكومة. بدا المقصود بذلك، مع جلاء الجيش السوري، أن موازين القوى الداخلية هي الشريك الفعلي للرئيسين في التأليف، وفي كل ما يتجاوزه في طلب الحصص والحقائب.
ما يسمعه المطلعون عن قرب على موقف رئيس الجمهورية، أنه مصر على حكومة تتمكن من الحكم، وتجعله يحكم كرئيس للدولة. يريد بذلك إعادة الاعتبار إلى الرئاسة بما لا يجعل دورها يقتصر على توقيع مرسوم تأليفها لمجرد أن له حصة، بل طلب سلطة إجرائية جدية وقوية. بدوره، الرئيس المكلف يردّد كلاماً مماثلاً، بتأكيده أنه هو المرجع الوحيد لتأليف الحكومة قبل عرضها على رئيس الجمهورية، في معرض استنفار طائفته كما لو أن المستهدف هو المنصب وصلاحياته الدستورية، وليس الرجل، وكما لو أن الطائفة هي مرجع الصلاحيات الدستورية تلك. مع ذلك، لا يغرب عن بال الحريري - أو يُفترض - أن والده الرئيس رفيق الحريري لم يؤلف، بفعل صلاحياته الدستورية، أياً من حكوماته في عهدي هراوي ولحود، ولا يغرب أكثر عن باله أن أياً من أسلافه هو قبل وصوله إلى السرايا وبعده كالرؤساء فؤاد السنيورة ونجيب ميقاتي وتمام سلام لم يؤلف بمفرده حكوماته، ولا حتماً تبعاً لصلاحياته الدستورية.
عند هذا التقاطع، يلتقي عون والحريري في حصر التأليف بهما، وتالياً دفع الاستحقاق إلى نطاقه الدستوري البحت للمرة الأولى منذ اتفاق الطائف. لا يكرّسان بالتأكيد عرفاً جديداً في الممارسة، بل يعودان إلى أصل الصلاحية التي تجعل توقيع أي منهما ملزماً للآخر لإبصار أي حكومة النور. ما يعني توافقهما على تأليفها كلها. ولأن كليهما يملك فيتو تعطيل التأليف، يتداخل دوراهما على نحو يتعذّر معه فرض إرادة أحدهما على الآخر. لكن ما يعلماه معاً، على السواء، أن ليس في وسعهما فرض حكومة أمر واقع على أي من الأفرقاء ذوي السقوف العالية كوليد جنبلاط وسمير جعجع، ولا بالتأكيد على «الثنائي الشيعي».
ما يحتّمه تناقض موقفي عون والحريري أن لا حكومة جديدة ما لم يتخلَّ أحدهما عن شروطه


ثانيها، أن إصرارهما على أنهما المعنيان وحدهما بالتأليف لا يعفيهما من وجودهما عند مفترقين متناقضين. يتمسك عون بإعطاء القوات اللبنانية أقل مما تطلب بما في ذلك عدم حصولها على نيابة رئاسة الحكومة أو حقيبة سيادية، وبوضع مقعد درزي خارج جنبلاط، وبفصل حصته عن حصة حزبه التي يريدها مرجحة. في المقابل، يقيم الحريري في المقلب المعاكس: يدعم جنبلاط في المقاعد الدرزية الثلاثة، وجعجع في حصة زائدة مع حقيبة سيادية إذا لم تتوافر له نيابة رئاسة الحكومة. وأضاف الحريري إلى موقفه أحدث وسائل الضغط، تأكيده أنه لن يعتذر عن تأليف حكومته أياً تكن وطأة الضغوط أو مصدرها، وأياً يطول الوقت. ليس في وارد تكرار ما فعل في تكليف 2009 عندما اعتذر في اليوم الـ80 قبل أن يعاد تكليفه، ويرى في سابقة الأشهر الـ11 لسلفه سلام ما يعزّز حجته بأن الوقت لا يزال متاحاً أمامه.
ما يحتّمه تناقض موقفي الرئيسين أن لا حكومة جديدة ما لم يتخلَّ أحدهما عن شروطه، أو يوافقان على تنازلات متبادلة يكون الرابح فيها أو الخاسر جنبلاط أو جعجع.
ثالثها، ما يبدو جلياً أن عون ليس في وارد إرباك الحريري لدفعه إلى الاعتذار أو عرقلة مساعيه في التأليف، ولا في وارد التخلي عنه، ولا في صدد استعجال بت التأليف رغم ما سُرّب عنه في الأسابيع الأولى من التكليف أنه لن ينتظر طويلاً. يتصرّف حيال الوقت الذي مرّ على أنه لا يزال في نطاق طبيعي مقبول، لا يبرّر التسرّع في أي خطوة غير محسوبة. إلا أن تمسك الحريري بتكليفه وإعلانه سلفاً عدم الاعتذار لا يرسل سوى إشارة سلبية واحدة، إلى رئيس الجمهورية بالذات، المرجع المعني ببيان تكليفه وبإجراء استشارات نيابية ملزمة، مفادها إصراره على ممارسته صلاحياته الدستورية بلا قيود.
يعرف الحريري أيضاً أن أحداً، بما في ذلك مجلس النواب، لا يسعه تجريده من تكليفه ما خلا الرياض التي أرغمته في تشرين الثاني الفائت على الاستقالة. لا سابقة في ذلك منذ أول تطبيق للتكليف المنبثق من اتفاق الطائف مع حكومة الرئيس عمر كرامي عام 1990. كان الرئيس نبيه برّي وجد أخيراً في تجريد الرئيس المكلف من تكليفه إيذاناً بـ «حرب مذهبية».