بعد انقضاء حوالي ثلاثة عقود على انتهاء الحرب الأهلية، كيف لنا أن نصدق أن القطاع العام (الكهرباء) فاشل وكنا قبل الحرب نبيع الفائض من إنتاجنا الكهربائي لسوريا؟ وماذا كان ليفعل المهندس إبراهيم عبد العال، (الذي ترأس مشروع معامل إنتاج الطاقة الكهربائية على سد القرعون وما تلاه من معامل مائية، وقد أطلق اسمه على المحطة الكهرومائية التي تم تدشينها في الستينات) لو علم أن بحيرة القرعون كما كل نهر الليطاني سيتحولان إلى مجاري للنفايات بكل أنواعها، وهل كان صمم هذا المشروع وأقدم على تنفيذه؟منذ انتهاء الحرب، شرعت وزارة الطاقة بوضع ما أسمي برنامج إعادة تأهيل الكهرباء، وهو لحظ تأهيل المعامل وإنشاء معامل جديدة لتأمين الحاجات، والتي كان قسم منها ناجماً عن التدهور في الإنتاج بسبب الحرب، والقسم الآخر ارتبط بتقديرات معدلات النمو في ما سمي برنامج إعادة الإعمار، وما سيحتاج إليه من قدرات كهربائية متنامية. خطة التأهيل هذه، كما كل المشاريع التي سيقت تحت عنوان إعادة الإعمار، خضعت للمحاصصة والتنفيعات.
لقد تم تأهيل معمل الحريشة الذي يضم عنفة بخارية واحدة بقدرة نحو سبعين ميغاواط، وانطلاقاً من منطق «التساوي»، لم يمر إقرار تشييد معمل دير عمار من دون معمل مماثل له في الزهراني، والمحطتان تعملان على الدورة الحرارية المركبة البخارية الغازية، بقدرة اسمية 450 ميغاواط لكل منهما، ومن باب التسويات تمت إقرار إنشاء محطتين غازيتين واحدة في بعلبك والأخرى في صور. كما تم وضع برنامج لتأهيل المحطات المتبقية من حرارية ومائية.
البرنامج كان طموحاً، إلا أنه شابته عيوب أبرزها:
1-إن برنامج إنشاء معامل جديدة لم يلحظ تأهيل شبكة النقل بشكل مواز، وبعد الانتهاء من معمل دير عمار، تبين أنه لا يمكن تشغيل المعمل بكامل طاقته لأن الشبكة غير قادرة على استيعاب القدرات الجديدة، ما اضطر شركة الكهرباء لتشغيل العنفتين الغازيتين فقط بقدرة 300 ميغاواط، وبعدم تشغيل العنفة البخارية، والتي يتم تشغيلها بالطاقة الحرارية العالية الخارجة من العنفتين الغازيتين، ما أهدر هذه الطاقة في الهواء، ورفع كلفة الإنتاج، ووضع العنفة البخارية خارج الإنتاج، بما يعنيه من خسائر. إن أبرز إيجابيات الدورة الترموديناميكية المركبة هو تشغيل المحطة بقسميها البخاري والغازي، وهذا يؤمن مردودية عالية تتخطى 55 في المئة، في حين أن مردودية العنفات الغازية لا تتخطى 35 في المئة. واستمر هذا الوضع سنوات عدة.
2- عند وضع مشروع دير عمار والزهراني، كان الرهان على تشغيل المحطتين على الغاز الطبيعي، والذي جرى الافتراض أنه سيتم تأمينه من مصر عبر خط يعبر الأردن وسوريا ويصل إلى تركيا. وتم تمديد الخط الساحلي في لبنان، إلا أن الظروف منعت تشغيل هذا الخط، وبالتالي، فإنه بدلاً من الغاز الطبيعي، يجري التشغيل على الفيول، وهو يمثل أكلافاً أعلى قياساً بالغاز الطبيعي، وهو أسوأ من الغاز الطبيعي لناحية تأثيره على العنفات.
3- المساومات السياسية فرضت إنشاء محطتين غازيتين في بعلبك وصور، والمعروف هندسياً أن العنفات الغازية تتميز بمردود أدنى من العنفات البخارية، كما أن إنشاء معمل في بعلبك أدى إلى نقل الفيول من بيروت إلى بعلبك، مما رفع من أكلاف الإنتاج بسبب أعباء النقل.
إضافة إلى ما تقدم، فإن إسرائيل كانت تستهدف بشكل مبرمج أثناء اعتداءاتها على لبنان البنى التحتية، خصوصاً منشآت قطاع الكهرباء من مخازن ومحطات تحويل وخطوط نقل.
إن المشكلة التي تمنع تأمين الكهرباء تتمثل بعدم التكافؤ بين الاستهلاك والإنتاج، أي أننا بحاجة لزيادة قدرتنا الإنتاجية ما يوازي 50 في المئة من القدرة الإنتاجية الراهنة. وبالنسبة لبلد مثل لبنان، فإن الحل الأمثل يكون بإنشاء معامل حرارية، بحيث يكون جزء منها على الدورة المركبة البخارية الغازية، وقسم آخر على البخارية، والقليل المتبقي على الغازية بهدف تغطية ساعات الذروة.
والسؤال البديهي هو لماذا حتى الآن لم تنتقل إلى حيز التنفيذ خطة بناء المحطات الحرارية، على رغم أنه منذ أكثر من عامين تم الانتهاء من وضع دفتر الشروط لإنشاء معمل دير عمار 2 إلى جانب المحطة الحالية، إلا أنه وبقدرة قادر تبخر كل شيء؟
إن من يتابع أنشطة وزارة الطاقة يكتشف أن مشاريعها تتوسع لتتخطى الأشكال التقليدية في إنتاج الطاقة إلى الطاقات المتجددة، كالطاقة الشمسية، والآن يبشرنا الوزير في حكومة تصريف الأعمال بطاقة الرياح التي سيتم توليدها في عكار، في حين أن هذه المشاريع لا يمكنها أن تغطي العجز في الإنتاج، وإقرارها كان ليبدو مفهوماً ومنطقياً لو أنها تجري في وضع سليم وبهدف رفع نسبة الإنتاج من المصادر المتجددة، أو لو أن تنفيذها كان سيغطي العجز في الإنتاج.
إن إنشاء معامل ثابتة لإنتاج الطاقة سيكلف الخزينة أعباء مالية، إلا أن هذه المنشآت ستكون ملكاً للدولة اللبنانية، وستزيد من قيمة القطاع إذا ما تعزز وضعه وتأمنت التغذية بالتيار الكهربائي على مدار الساعة، وستفتح المجال لتأمين فرص عمل للمئات من المهندسين والإداريين والعمال والتقنيين. هذه المعامل تفترض تأهيل شبكتي النقل والتوزيع بما يضع القطاع تقنياً وهندسياً على مستوى رفيع، وهذا سيجسد ليس فقط سيادة الدولة في واحد من أهم القطاعات الاستراتيجية، إنما سيعيد إلى الناس الثقة بقدرة وفعالية القطاع العام في تأمين حاجات الناس البديهية.
ولأنه لا قرار سياسياً في هذا الشأن ليس فقط لأن السلطة السياسية تريد تصفية القطاع العام، إنما بسبب الافتقاد إلى خطة تنمية وطنية تأخذ في الاعتبار الأولويات، لهذا السبب، كانت البواخر وليس معامل الإنتاج، وكانت شركات تأمين الخدمات وليس شركة كهرباء لبنان، وكانت مشاريع السدود المائية ذات الأكلاف العالية والمشكوك علمياً وهندسياً بفعاليتها مقارنة بأكلافها وأثرها البيئي المدمر، وليس خطة متكاملة لإدارة الثروة المائية، تقوم على وقف استنزاف هذه الثروة بواسطة الآبار، مع وضع ضوابط عليها في المرحلة الأولى، وتقييد استخدامها ومتابعة قضية تلويث مصادر المياه، والآن العدادات على المولدات الخاصة التي صارت قطاعاً موازياً يستفيد منه الأزلام والأتباع، والحبل على الجرار.
إن قطاع الكهرباء هو أحد المعايير لصدقية رافعي شعار بناء الدولة، إذ لا يمكن حصر موضوع سيادة الدولة أو بناء الدولة فقط بطرح مسألة سيادة الدولة ربطاً بقرار السلم والحرب، ولهذا بحث آخر، إنما يكون ببناء دولة الرعاية الاجتماعية، وأي دولة هذه التي تتخلى عن أحد أهم القطاعات الاستراتيجية، أي قطاع الطاقة والكهرباء من خلال عدم تأمين أبسط الأمور: إنتاج الكميات الكافية من الطاقة الكهربائية، وإدارة القطاع منذ التسعينات وحتى اليوم بهذه العشوائية والتي تخفي هماً واحداً ألا وهو نهب الخزينة العامة وجيوب الناس.
وطالما أننا نعيش في عصر الشعارات، فلنستمد شعاراً كهربائياً من أغنية: بابوري رايح رايح، بابوري جاي، أيها اللبناني، لن تأتيك دولتك لا بالكهربا ولا بالمي!
* أستاذ جامعي