بين العامين 1990 و2008، تراكم مبلغ 953 مليون دولار من الديون المستحقة لمؤسسات وأفراد لبنانيين في ذمة الدولة العراقية (من دون احتساب الفوائد). خلال هذه الفترة، جرت أحداث في العراق، من الحصار الأميركي إلى برنامج النفط مقابل الغذاء ثم الاجتياح الأميركي للعراق والصراع السياسي المتواصل على السلطة. بقي الملف عالقاً طوال هذه السنوات. وفي عام 2011، قرّرت المصارف اللبنانية أن تفتح فروعاً لها في أربيل، وكان عليها أن تطبِّق النظام العراقي الذي ينصّ على أن تودع لدى المصرف المركزي العراقي ــــ فرع أربيل، 10% من الموجودات المتوقعة كضمانة للودائع المتوقع جمعها في هذه الفروع. لم تفتح المصارف أي فرع، فيما استولى فرع المصرف المركزي العراقي في أربيل على مبلغ 83 مليون دولار عائدة للمصارف اللبنانية.
صبر أيوب
هذه هي المشكلة العالقة بين لبنان والعراق بين فترتين زمنيتين متباعدتين الفاصل بينهما 21 عاماً. المصيبة أن الحكومة العراقية لم تغير موقفها من الديون المترتبة للتجار اللبنانيين. هي تقرّ بوجود الدين وترفض تسديده. ببساطة، تريد «أكل» نصفه. تروّج لذلك من خلال تجزئته إلى مرحلتين. مرحلة ما قبل 2003، ومرحلة ما بعدها. تبدي استعدادها لتسديد مبالغ المرحلة الثانية، وتصرّ على إخضاع مبالغ المرحلة الأولى لاتفاقية نادي باريس، أي تسديد 10.25% من قيمة الدين لحامليه، و9.75% لشركة «إرنست أند يونغ» كأتعاب على قيامها بعملية التدقيق في الفواتير، وحسم الباقي. يأتي هذا الموقف بمبررات أو ذرائع واهية. هو موقف متعنّت يواجهه اللبنانيون بـ «صبر أيوب». الأردن وسوريا تجنّبا هذا المأزق وحجزا كل الأموال العراقية الواقعة ضمن أنظمتهما المصرفية وسدّدا ديون مورّديهما. أما الحكومة اللبنانية، فقد رفضت اتباع هذا السلوك مع «بلد شقيق». وفي المقابل، تمادى العراق في موقفه وقرّر في البدء عدم الاعتراف بديون المصارف اللبنانية على المصرف العراقي المركزي البالغة 83 مليون دولار، إلا أنه تراجع عن موقفه هذا بعد الزيارة الأخيرة للرئيس ميشال عون إلى العراق.

الاعتراف العراقي «إيجابي»
ثمة جزء من هذه المشكلة وصل إلى الحل. فقد تلقى وزير مكافحة الفساد في لبنان نقولا تويني، بصفته مكلفاً رسمياً متابعة ملف الديون اللبنانية في العراق، كتابين من السلطات العراقية. الأول، تعرب فيه هذه السلطات عن التزامها الشروط التعاقدية التي حصلت مع التجار اللبنانيين بين العامين 2003 و2008، إلا أنها تضع الديون السابقة التي تعود لما قبل 2003 في خانة أخرى، وقال تويني إن الدولة العراقية ستطبّق على الديون الأخيرة ما طبقته على الدول الدائنة عن هذه الفترة من خلال العودة إلى نادي باريس. أما الكتاب الثاني، فكان بمثابة تبليغ من السلطات العراقية عن تسديدها دفعة من إيداعات المصارف اللبنانية لدى البنك المركزي العراقي ـــــ فرع أربيل.
يصف تويني المراسلات العراقية بأنها «إيجابية». بالنسبة لديون التجار، يؤكد التويني أنه جرت مراسلة السلطات العراقية «وقلنا لهم إننا موافقون على الجزء المتعلق بالديون لما بعد 2003، إلا أننا غير موافقين على الشق المتعلق بالديون السابقة، لا سيما أن لدينا دراسة قانونية من القاضية ميسم النويري تؤكد أن شروط نادي باريس للديون تنطبق على الدول، ولا تنطبق على المؤسسات والأفراد الذين تعاقدوا مع الدولة العراقية». وفي ما خصّ الملف المصرفي، فقد أعرب عن ارتياحه، آملاً في إقفال كل الملفات العالقة بين الجانبين.

ديون التجار
تعود قصّة الديون اللبنانية المتراكمة على الدولة العراقية إلى عام 1990. يومها، بدأ الحصار الأميركي على العراق وتوقفت الحكومة العراقية عن السداد. وبحسب رئيس مجلس الأعمال اللبناني العراقي عبد الودود النصولي «توقف الكثير من الشركات عن التعامل التجاري مع العراق، لأنها لم تكن قادرة على الاستمرار من دون السداد». ثم جاء برنامج النفط مقابل الغذاء في عام 1995 وانخرطت بعض المؤسسات في التعامل التجاري مع العراق في إطار البرنامج، «وكان مسموحاً للعراق استيراد 42 سلعة منها الإسمنت والمياه، على سبيل المثال لا الحصر، من خارج إطار هذا البرنامج، وكان الدفع يحصل بطرق أخرى، منها التسديد عبر الأردن. وكانت الشحنات تمرّ عبر سوريا بموافقة السلطات العراقية والأمم المتحدة، إلا أنه لم تسدّد كل المبالغ المستحقة للمؤسسات والتجار اللبنانيين».
هكذا تراكمت الديون، سواء تلك التي صدرت إلى العراق في إطار برنامج النفط مقابل الغذاء أو بالطرق الأخرى. الموقف العراقي، كان حاسماً لجهة الديون العائدة لما قبل عام 2003، أي إخضاعها لنادي باريس. حجتهم أن الديون التي تعود إلى ما قبل 2003 هي عبارة عن قصّة قديمة من أيام النظام السابق، وأن العراق أقفل كل هذه الديون من خلال اللجوء إلى نادي باريس، أي إن العراق حسم على الدائنين 80% من الدين. هم يعترفون بهذا الدين، لكنهم يصرّون على موقفهم لجهة إخضاعه لنادي باريس، ويظهرون بعض الإيجابية بالنسبة إلى الديون المتعلقة بفترة ما بعد 2003، أي ما يوازي نصف الديون المتراكمة.

للمصارف قصة أخرى
أما قصّة الديون المصرفية على المصرف المركزي العراقي، فهي حديثة النشأة. في عام 2011 قرّرت المصارف اللبنانية أن تفتح فروعاً لها في العراق. التزاماً منها بالأنظمة المالية العراقية، طلبت هذه المصارف من المصرف المركزي العراقي إيداع 83 مليون دولار لدى فرعه في أربيل. المصارف اللبنانية لم تكن تفصل بين المصرف المركزي العراقي وفرعه في أربيل. لاحقاً، المصارف اللبنانية لم تفتح أي فرع لها في أربيل، فطالبت المصرف المركزي العراقي بإعادة المبلغ المحوّل منها إلى فرعه في أربيل. وفي تشرين الثاني 2015، تلقت المصارف اللبنانية كتاباً من البنك المركزي في بغداد (وتلقى مصرف لبنان كتاباً مماثلاً) يعلمها فيه أن فرعيه في أربيل والسليمانية لم يعودا مرتبطين به إدارياً أو تنظيمياً أو مالياً، بل بوزارة المال في الإقليم، وأنه لا يعترف بالمبالغ المودعة لديهما بالدينار أو بالدولار.
هكذا بات على المصارف اللبنانية، أن تسجّل هذا المبلغ ضمن قائمة الديون المشكوك فيها، وصار لزاماً عليها أن تقتطع من أرباحها مؤونات احتياطية مقابل هذه الديون.
يذكر أن هذه المشكلة ليست المشكلة الوحيدة التي تواجه المصارف اللبنانية العاملة في العراق. ففي الفترة الماضية، عانت المصارف من مشكلة الغرامات الجماعية التي فرضت على المصارف الخاصة في العراق بسبب توظيفات يشتبه في أن بعضها غير موثوق أو فيه تزوير. وقبلها فرض المصرف المركزي في بغداد على المصارف الخاصة العاملة هناك، وبينها المصارف اللبنانية، زيادة إلزامية على رأس المال إلى 70 مليون دولار بالحدّ الأدنى مقابل فتح عدد غير محدود من الفروع، لكن جرى التخفيف من وطأة القرار وخفضت الزيادة الإلزامية من 70 مليون دولار إلى 50 مليون دولار، فيما بقيت الإجازة للمصارف بفتح عدد غير محدد من الفروع متاحة.
لاحقاً، تبيّن أنه يجري إلزام المصارف اللبنانية في العراق، بالدخول في استثمارات قد لا ترغب فيها، كما هي الحال بدعوة البنك المركزي العراقي المصارف في العراق إلى إنشاء صندوق إقراض من دون أن يكون لها خيار عدم المشاركة فيه وقبل الاطلاع على نظامه الأساسي، وكذلك على أنظمة وقواعد إدارته وعمله، ما يؤدي إلى أخطار جمّة يصعب تحديدها إذا استنفد رأس ماله. ولم يجرِ إطلاع المصارف على نظام إنشاء مؤسسة ضمان الودائع في العراق، ما يجعلها غير قادرة على تقييم حجم الأخطار التي قد تترتب عنها مستقبلاً نتيجة تعثّر أحد المصارف أو توقفه عن الدفع، كذلك يصعب على المصارف معرفة سقف الأخطار إذا استهلك رأس مال المؤسسة، ما يعرض رساميلها (المصارف) للتآكل والذوبان. كذلك تجهل المصارف نظام الاشتراك السنوي الذي يكون في غالبية أنظمة ضمان الودائع نسبة مئوية متدنية من الودائع لدى كل مصرف.


نادي باريس
هو مجموعة غير رسمية مكونة من 19 دولة تعدّ من أكبر الاقتصادات في العالم. يجتمعون كل ستة أسابيع في باريس للنظر في الأوضاع المالية للدول المدينة بدلاً من إعلان إفلاسها. ولدت فكرة النادي انطلاقاً من المحادثات التي عقدت في باريس عام 1956 لنقاش الأزمة بين الأرجنتين ودائنيها المختلفين. وقد دونت مبادئه وإجراءاته في نهاية السبعينات. وتردّد أن إسرائيل انضمت إلى النادي، وأنها انتهزت فرصة حصولها على العضوية الدائمة في محاولة شراء ديون مصر.