في الطلعة إلى «حي المسيحيين»، قبالة قلعة بعلبك، تحديداً في حي مار جرجس، ترخي تينة عملاقة بظلالها على منزل «شاعر الأقطار العربيّة خليل مطران»، كما تشير لوحة رخامية معلّقة على مدخله. بيت قديم تآخى الغبار مهجدرانه، وعربشت النباتات والأعشاب على أبوابه وشبابيكه العتيقة شبه المخلّعة. 69 سنة مرّت على رحيل مطران (1949) الذي أبصر النور عام 1872 في هذا المنزل وشبّ فيه، قبل أن يرحل إلى باريس هرباً من عسف الأتراك، ثم إلى مصر حيث توفي مخلفاً إرثاً أدبياً وشعرياً جعله واحداً من أقانيم ثالوث الشعر المعاصر إلى جانب حافظ إبراهيم وأحمد شوقي.ورغم ما للبيت من رمزية ثقافية وتاريخية وجمالية، إلا أنه مجهول بالنسبة الى كثيرين، وكان معرضاً للانهيار، قبل أن تبادر بلدية بعلبك، عام 2015، إلى ترميمه، جزئياً، وتحويله مركزاً ثقافياً يعرّف أبناء المدينة على أحد أعلامها الذي ذاع صيته في الأقطار العربية شاعراً ومناضلاً ضد الطغيان. لهذه الغاية، تأسست جمعية «خليل مطران الثقافية» برئاسة المحامي الياس مطران (ابن شقيق الشاعر) وضمت ثلاثة أعضاء من المجلس البلدي، وسعت إلى تأمين هبات محلية وأجنبية لترميم المنزل. غير أنها اصطدمت بموانع عدة من بينها أن المنزل «ملكية خاصة». عندها، رصد المجلس البلدي السابق نحو 100 مليون ليرة من موازنة 2015 لإنقاذ المنزل من الانهيار الحتمي، لاعتبارات عدة في مقدمها «الحفاظ على ارث مطران باعتباره واجباً وطنياً وبلدياً، وإعلاء للشأن الثقافي في مدينة بعلبك». صرف المبلغ على إجراء الدراسات وتدعيم المنزل «مما سمح بالحفاظ على شكله الخارجي كقيمة عمرانية وحماية سطحه بالقرميد وتدعيمه بالجسور غير الظاهرة» بحسب رئيس البلدية السابق وعضو المجلس البلدي الحالي حمد الحسن.
معرض الكتاب في المنزل

رفض الورثة التنازل عن المنزل وتحويله إلى متحف دفع بكثيرين الى إلقاء اللوم على المجلس البلدي السابق بسبب دفعه أموالاً لـ«ترميم ملكيّة خاصّة». فيما أكّد الحسن لـ«الأخبار» أن «القانون يسمح لرئيس البلدية بتقدير الإنفاق على المشاريع الخاصّة بالنظر إلى أهميّتها بالنسبة للشأن العام». ويلقي الحمد باللوم على «وزارة الثقافة لتقصيرها تجاه المنزل»، لافتاً إلى «أن التواصل معها لم يتمّ عبر القنوات الرسميّة، لكن النشاطات الثقافيّة التي ضمّها المنزل إلى الآن كانت كافية للفت انتباه المعنيين في الوزارة».
ومن بين تلك النشاطات، «سبت بعلبك الثقافي» الذي بادرت إليه مجموعة من شباب المدينة ويتضمّن أمسيات شعرية تنظم في السبت الأول من كل شهر منذ 2015 وتلقى إقبالاً لافتاً. مما دفع بمجموعة «شباب السبت» إلى إحياء مهرجان شعري أطلقت عليه اسم «مهرجان خليل مطران» تقيمه في قلعة بعلبك ويستضيف شعراء من كافة المناطق. وقد حلّ المهرجان أمس، للمرة الثالثة في قلعة بعلبك، متوجّاً أسبوعاً ثقافياً تخلّله معرض للكتاب أقيم في منزل مطران بالتعاون مع وزارة الثقافة. وتهدف المبادرة الشبابيّة بحسب أصحابها إلى «التذكير بضرورة استكمال أعمال الترميم في المنزل»، والإضاءة «على أعمال الراحل والوجه الثقافي للمدينة».
ويلفت رئيس «سبت بعلبك الثقافي» الشاعر مصطفى الصلح إلى «أن المرحلة الأولى من الترميم حمت البيت من السقوط لكن وضعه لا يزال بالويل»، كما يحتاج إلى ترميم جدرانه الطينيّة وأبوابه وشبابيكه المخلّعة ويتطلب تمديدات كهربائية وصحية «تحوّله فعلاً إلى مركز مؤهّل ليحتضن الأنشطة الثقافية على أنواعها في كل فصول السنة».
اللافت أن المجلس البلدي الجديد لم يستكمل مبادرة سلفه عبر تخصيص مبلغ جديد لحماية هذا المعلم الثقافي. مصادر مطلعة عزت ذلك إلى «تبدل الأولويات، فالمدينة تعاني حالياً من شحّ في المياه ما أجّل متابعة أعمال الترميم إلى مراحل لاحقة». فيما ربط معارضون للبلدية ذلك بـ«خيارات كل رئيس بلدية وما يرتأيه من أعمال يبدأها من الصفر وينجزها ويفتتحها في عهده»!
رئيس بلدية بعلبك العميد حسين اللقيس أكّد في اتصال مع «الأخبار» أن أعمال الترميم متوقفة «لأسباب مادية بحتة، خصوصاً مع غياب جهات مانحة لتمويل المشروع»، واعداً بـ«السعي الجدي لتأمين هبات لاستكمال الأعمال حتى يجهز المنزل بحلول 2020». ولفت الى أن وزير الزراعة غازي زعيتر تكفل، على نفقة الوزارة، بتأهيل الحديقة المجاورة للبيت والتي تمتد على مساحة 4 آلاف متر مربع.
تمويل الترميم يواجه صعوبة كون المنزل لا يزال ملكية خاصة


الحسن الذي يتسلم رئاسة اتحاد بلديات بعلبك في أيار المقبل أكّد أيضاً أن المجلس البلدي اتخذ قراراً بإدراج استكمال أعمال ترميم منزل مطران ضمن موازنة 2019، لتشمل البيت والحديقة والمواقف وكل التجهيزات اللازمة «التي تحوّله إلى أهم معلم وصرح ثقافي لرمزيته وموقعه الاستراتيجي المواجه لقلعة بعلبك وسط المدينة». لكنه لفت الى صعوبة إيجاد تمويل «لأن البيت لا يزال ملكية خاصة»، مشدداً على ضرورة أن يلقى المنزل اهتماماً على مستوى رسمي».
يطمح شباب بعلبك المبادرون إلى إحياء منزل الشاعر «ثقافياً»، إلى إيجاد التمويل اللازم «لإحيائه عمرانياً» كونه يعود إلى فنّ العمارة السائد في القرن التاسع عشر، وجعله مقصداً لزوّار القلعة التي قال فيها مطران:
إيه آثار بعلبك سلام بعد طول النوى وبعد المزار
ذكريني طفولتي وأعيدي رسم عهد عن أعيني متواري