«ضيعانها». كلمة ملتصقة بصوفر منذ سنوات الحرب الأهلية التي افترست جمال طبيعتها ورقي منازلها وازدهار أيامها ولياليها. لم يبدّد السلم «ضيعان» أيام العز. تبدو كمتحف صامت للبيوت الجميلة والكئيبة. كثير من أهاليها لم يعودوا بعد. والأهل، هنا، ليسوا فقط أولئك المدرجين في سجلات النفوس، بل، أيضاً، المصطافون والسياح و... الأثرياء الذي «خلقوا» أفخر مراكز الإصطياف في جبل لبنان، بعد أن كانت كروم عنب وتين متروكة للضباع وبنات آوى.
لا تخفي الإضاءة والزينة المستجدّة آثار الزمن المتجذر في الجدران والنوافذ والسقوف والأرضية في «أوتيل صوفر الكبير». الفندق الضخم، ذو الطراز المعماري الإيطالي، شهد خلال الأسبوعين الماضيين حفلتي زفاف مبهرتين أعادتاه إلى ما قبل العام 1975 وأنستا جيرانه الهدم والتخريب اللذين لحقا به. الرسام البريطاني توم يونغ عكف طوال الشهرين الماضيين على تجسيد ما كان عليه الـ«أوتيل» وما صاره. سمع عن الأحداث التي شهدها ممن عايشوها، لا سيما إيفون سرسق (96 عاماً)، إحدى أبرز وريثاته. اطلع على ما بقي من صور لقاعة البوكر وقاعة حفلات الزفاف والأمسيات الموسيقية والثريات واللوحات وأطياف عمر الشريف والملك فيصل وسعد زغلول؛ وصولاً إلى أجنحة النزلاء الفارهة ذات النوافذ المقنطرة الواسعة والجدران الحجرية الحمراء لعزل الحرارة، وملاعب التنس حيث كانت تقام بطولات دولية.... وأحياها في لوحات وزعها بين أقسام الطبقة الأرضية التي تفتح ابتداء من اليوم أبوابها للزوار عامة، بخلاف الشروط الطبقية التي كانت تحدد فئات معينة ممن يسمح لهم بالدخول. أخضع رودريك سرسق (نجل إيفون) الطبقة الأرضية من الفندق لورشة ترميم أولية. لا تريد العائلة ترميم الفندق بطبقاته الثلاث وإعادة تشغيله لاستقبال النزلاء. الهدف الحالي يقتصر على تحويله إلى مساحة مفتوحة تستخدم لإقامة الحفلات والمعارض الفنية والأعراس.
حتى عام 1926 لم يكن هناك بلدة اسمها صوفر، لا في السجلات ولا على الأرض


بين تشييد «صوفر الكبير» عام 1894ربطاً بمحطة سكة قطار بيروت ــــ دمشق التي أنشئت قبالته، واندلاع الحرب الأهلية وتحوله إلى موقع عسكري، شكّل الفندق الحجر الأساس الذي بنيت من حوله صوفر. الفندق الأقدم في لبنان وحامل الترخيص الأول ككازينو (لا يزال الترخيص نافذاً)، جذب الأثرياء للإصطياف فوق التلة المرتفعة بنحو 1250 متراً والتي تفصل بين الجبل وضهر البيدر.

شكّل الفندق الحجر الأساس الذي بنيت من حوله صوفر(هيثم الموسوي)

حلت العائلات الأرستقراطية فيها وشيدت قصوراً. خدمة الأثرياء والإهتمام بشؤونهم وتوفير أغراضهم، جذبت عدداً من أبناء البلدات السبع التي تحيط بها. سكنوا وعملوا فيها حتى نزلوا في قيودها في الإحصاء السكاني الأول في عهد الإنتداب الفرنسي عام 1931.

اختراع صوفر
حتى عام 1926، لم يكن هناك بلدة اسمها صوفر، لا في السجلات ولا على الأرض. على الخرائط العقارية، كان اسمها عين صوفر نسبة إلى عين المياه التي لا تزال على طريقها الرئيسية حتى اليوم. ينقل بهيج شيا ( 86 عاماً) عن والده أن المنطقة كانت مزرعة يتقاطع فيها خراج بلدات مجدلبعنا وشارون وبدغان والقريّة وقبّيع والشبانية. في التلة المرتفعة، كانت تمر طريق عربات الخيل التي تنقل الركاب والبضائع بين بيروت والبقاع والشام.

محطتها كانت عند عين صوفر حيث ترتاح وتشرب الخيول وتستبدل بخيول أخرى في الخان. يحفظ الأهالي اسم «مدام خضرة». سيدة ارستقراطية استوقفها جمال صوفر وشيّدت منزلاً لها بجوار العين مطلع القرن التاسع عشر. على خطى خضرة، سار ارستقراطيون آخرون بعدما تحولت محطة عربات الخيل إلى محطة سكة قطار الحجاز الذي انشأته السلطنة العثمانية. أولى العائلات التي سكنت المنطقة كانوا آل سرسق الذين ــــ بحسب شيا ــــ أتوا عبر أشخاص من آل بو فرحات من حمانا. تبعهم آل ثابت الذين أتوا على يد لويس شيا من بدغان. آل سرسق شيدوا «أوتيل صوفر الكبير» وقصوراً عدة، وحذت حذوهم عائلات إدة وثابت ونقاش وكرم. في وقت لاحق، حجزت أبرز العائلات السياسية مساحة لها في صوفر للراحة والسكينة كآل سلام والصلح واليافي وكرامي وإرسلان وجنبلاط...
يتناقل الأهالي عن شكوى لدى البلدية في أيام «العز» من وجود ثلاث برغشات في أحد المنازل


استثمر الأثرياء نفوذهم في زمن الفرنسيين و«خلقوا» بلدة مستقلة باتت لها بلدية عام 1926، تولى رئاستها فيليب ثابت. أحد المصطافين، المصري يوسف مشاقة، خلف ثابت في الرئاسة عام 1930. في زمنه، أجري الإحصاء الأول وشُكّلت سجلات صوفر. عائلة سرسق رقم سجلها واحد. شهدت البلدة تطوراً ملحوظاً على يد مشاقة، جعلها تبلغ موقعاً متقدماً عن جاراتها. يتناقل الأهالي بأن أحد المقيمين سجل شكوى في البلدية لأنه وجد ثلاث برغشات في منزله! أوفد مشاقة على عجل الشرطة البلدية للكشف عن مصدر البرغش، فوجدوا أن مقيماً لم يحكم طمر الجورة الصحية خلف منزله. عولجت الجورة وغرّم صاحبها. أما الرئيس إبراهيم سرسق فقد استورد شجر الدلب من أوروبا وزرعه على جانبي الطرقات حيث لا يزال حتى الآن، معلماً من معالم البلدة، وخلفية طبيعية لجلسات التصوير. البلديات المتعاقبة كانت تكلف عامل نظافة يجول على البيوت لجمع الأغراض غير اللازمة.
بسبب مناخها البارد معظم أشهر السنة وقربها من بيروت، باتت صوفر مصيفاً لـ«كبار القوم»: جمال باشا الجزار ورؤساء ووزراء ونافذون من لبنان والخليج. كما اعتُمدت مقراً صيفياً للسفير الفرنسي في لبنان. آل ثابت اشتروا مئات الدونمات من آل شيا قبل أن يبيعوها للفرنسيين الذين بقوا ملّاكاً فيها الى ما قبل سبع سنوات، عندما اتخذت الحكومة الفرنسية قراراً ببيع كثير من ممتلكاتها في الخارج، منها مصيف صوفر الذي اشتراه رجل أعمال سعودي.

شيّدت «مدام خضرة» اول منزل بجوار عين صوفر مطلع القرن التاسع عشر(هيثم الموسوي)

دورة اقتصادية كاملة، كان يوفرها المصطافون في صوفر التي تعتمد على السياحة وعابري السبيل. في زمن عربات الخيل وقبل أن تصبح مسكونة، كان أبناء البلدات المجاورة يفدون إلى الطريق ويفرشوا بسطات الخضر والفواكه للمارة. النشاط الإقتصادي هو من جذب «العامة» للإقامة الدائمة في صوفر. في العشرينيات، تأسس سوق صوفر على الطريق العام. محال افتتحت في الطبقة السفلية من البيوت الواقعة على جانبي الطريق. حاول الباعة توفير ما يحتاجه المصطافون من لحومات وخضر وثياب وكاز ومقاه وحلاقة ودراجات هوائية. تلفت رويدا فليحان الى أن أصحاب الفندق والقصور كانوا يفرضون على العمال شراء حاجيات الفندق من السوق. المحال أيضاً كانت تعتمد على محطة سكة القطار، وفي وقت لاحق على «البواسط» التي كانت تتخذ من عين صوفر محطة استراحة. هناك كان دكان يوسف فياض ميشال نخلة بانتظارهم: جرائد وسندويشات ألبان وأجبان وقناني «كازوز» ومياه من العين. كما كانت هناك حانة للمشروبات الروحية وخلفها مسلخ للمواشي أسسه رئيس البلدية يوسف الصايغ، فضلاً عن محلات الخضر والفواكه التي تشتهر بها المنطقة والتي كانت تجد لها زبائن «مقرشين» ينقلونها إلى بيروت.
شيّد المقتدرون من مالكي الأراضي منازل بغرض تأجيرها للمصطافين في موسم الصيف، لكن سبل استثمار السياحة في صوفر لم تقتصر على الصيف. بعض الأهالي كانوا ينتظرون موسم التزلج في المديرج لبيع المشروبات والسندويشات للمتزلجين. فيما عمل آخرون في جمع طابات كرة المضرب التي تقع خارج الملعب أثناء بطولات «التنس» التي كان يستضيفها «اوتيل صوفر».
شجر الدلب استقدم من أوروبا وتحول معلماً صوفرياً بامتياز(هيثم الموسوي)

لم يستطع عصام طربيه حبس دموعه بسبب الوعكة الصحية التي ألمت بإيفون سرسق، وريثة قصر «الدونا ماريا» و«أوتيل صوفر». يخشى عضو البلدية الحالي على ابنة السادسة والتسعين، ومن بعدها على إرث العائلة التي تصر على المحافظة عليه وترميمه بعد هجرة معظم أقربائها. نشأ طربيه وسط العائلة الأرستقراطية التي عمل والده لديها كمشرف على قصر «الدونا» الذي شيده ألفرد سرسق لزوجته الإنكليزية اللايدي ماريا عام 1924. عاملته اللايدي وأولادها الأربعة كواحد منهم. في منزل مجاور للقصر، عاش طربيه. بعد التخريب الذي طال القصر والفندق خلال الحرب الأهلية، صارت اللايدي جارته تقيم في الجناح المقابل. طربيه وسواه يتحدثون بمحبة عن الأثرياء الذين سكنوا صوفر. يدينون لأولئك الذين خلقوا صوفر وجاؤوا بهم من البلدات النائية التي كانت تعاني من العوز وضيق الحال، الى حيث سنحت لهم فرص التعلم والعمل بواسطة من «البيك» أو «الخواجة». شاهدوا كبار القوم وحضروا الحفلات وتعرفوا إلى القطار والسيارات الفارهة والمروحيات التي كانت تقل جيرانهم من الرؤساء والقادة...


النوستالجيا لا تطعم خبزاً
منذ بداية الحرب الأهلية، غادرت كل العائلات المسيحية صوفر. وبعدها، حلّت خريطة ديموغرافية واقتصادية جديدة في المصيف. لا أوتيل ولا قصور مسكونة ولا محطة قطار ولا السوق الذي أقفلت محاله في الثمانينات. في مكان كثيرين من «المؤسسين»، حلت عائلات خليجية. جزء من كورنيش صوفر الذي أسسه آل سرسق، صار اسمه «شارع ناصر الخرافي» نسبة إلى رئيس مجلس الأمة الكويتي الراحل الذي اشترى القصور الواقعة على مشارف وادي لا مارتين. عند مدخل الكورنيش الشرقي لوجة باسم «جادة الرئيس إميل إدة» الذي كان يملك منزلاً في صوفر تحول إلى موقع عسكري خلال الحرب. آل إدة كعشرات العائلات المسيحية باعوا ممتلكاتهم إلى أهل المنطقة أو الخليجيين. بعد «فورة» الـ 2000 جاءت الأحداث السياسية التي تلت اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، لتؤثر على حركة المصطافين الخليجيين الذين تركوا قصورهم للنواطير.
«النوستالجيا إلى ماضي صوفر لا تبني اقتصاداً. الزمن تغير»، يقول رئيس البلدية كمال شيا. يفرض ذلك البحث عن يعتمد على القليل المتوافر. وضعت البلدية مقترحات عدة لإحياء بعض المعالم واستثمارها كإرث ثقافي وسياحي قد يؤدي الى انتعاش اقتصادي. أبرز المقترحات مشروع إعادة افتتاح سوق صوفر. استدعى شيا أصحاب المحال أو وكلاءهم لإقناعهم بالسماح للبلدية بأن ترعى فتح المحال المهجورة وترميمها وتأجيرها. كما تدعم البلدية آل سرسق في ترميم الـ«أوتيل» وقصر «الدونا ماريا» اللذين شهدا تنظيم حفلات أعراس وامسيات موسيقية. شيا شجع على فتح الصرحين أمام الأنشطة الثقافية والفنية لجذب الزوار وبث الروح في المقيمين.
بقي من محطة القطار الجرس وخزان الوقود وغرفة التشغيل. السكة سرقت خلال الحرب؛ ألواحها الحديدية تحولت إلى دشم عسكرية وألواحها الخشبية التهمتها مواقد التدفئة. وضعت البلدية مقترحاً لترميم المحطة وتحويلها إلى حديقة عامة يتخللها مسار للدراجات الهوائية والمشاة. ومن المشاريع، إحياء مهرجان سوسنة صوفر، نسبة إلى زهرة IRIS SOFARAN التي تنمو في صوفر وست مناطق أخرى لبنانية. تنوي البلدية تحويل جزء من أراضيها إلى محمية لسوسنتها. فيما أحيت المهرجان الذي كان ينظم سنوياً قبل الحرب، باحتفالات نظمتها في «اوتيل صوفر» وعلى الكورنيش هذا الصيف والعام الماضي.